يوسف بزي

المدن:2/6/2019

اليوم هي ذكرى اغتيال شاب مرّ في تاريخ لبنان كشهب أضاء سماءنا حتى احتراقه الأخير. ذكرى “ناشط” قبل أن تعمم هذه الصفة، “مثقف” أعاد الدور لهذه المرتبة، “صحافي” أعاد الاعتبار لهذا اللقب، مؤرخ توثب يومياً إلى المستقبل.

اليوم ذكرى رجل مضيء كان لي حظ صداقته ومناقشته ورفقته. كان لي حظ معانقته والضحك معه وتبادل الأنخاب معاً ومراراً في ليل بيروت، حين بدأت تلك الحوارات النادرة في مراجعة زمن الحرب وما قبلها، طمعاً بتنضيد لغة “لبنانية” جديدة، مع شبان آتين من بيروت الغربية وبيروت الشرقية، ليتلاقوا سوية على تلك “المراجعة” التي أتاحت في أواخر التسعينات، ثم خصوصاً بعد 7 آب 2001، ذاك الالتقاء الذي سيتحول “خميرة” رأي عام حر سنراه في ربيع 2005.

قبل هذا كله، اليوم ذكرى عاشق نهم للاحتفاء بالحياة، للصخب المرح وللمشاكسة. عاشق للمدينة وفتنتها وللمغامرة بالسياسة والحب والكتابة، وللمجازفة القصوى في السياسة والصحافة.

اليوم ذكرى الجريمة أيضاً. ذكرى كراهية وحقد لكل ما سردناه للتو.

تكتسب الذكرى زخماً أقوى بعد مرور 14 عاماً عليها، ونحن نرى لبناناً مختلفاً، عنوانه ببساطة “جبران باسيل”. هذا الإسم الذي يختزل كل ما يمكن الخجل منه، طالما أنه أطاح بكل ما تأملناه خروجاً على النعرات والضغائن، فإذ به يأخذ المسيحيين والمسلمين إليها (عمداً) ويحيي فيهم أسوأ ما لديهم.

الذي خسرناه في سمير قصير بات أكثر فداحة حتى من مقتله: خسارة ما آمن به.

فما بين هزيمة “انتفاضة الاستقلال”، أي سقوط الديموقراطية اللبنانية، ثم هزيمة الثورة السورية، أي استعصاء الحرية للسوريين، وبينهما هزيمة الثورة الفلسطينية، أي العدالة للفلسطينيين.. عاد المشرق العربي إلى ما سماه قصير “الشقاء العربي”.

نقول ذلك، لأن في قصير اجتمعت، نَسَباً وأصولاً وجذوراً، هويات لبنان وسوريا وفلسطين. وهو المزهو بهذا الجمع الصعب والجذاب في آن معاً، اعتنق في دعوته السياسية مهمة إنكار التناقض أو التنافر بين تلك الهويات (لا إنكار تعددها)، على عكس تاريخ عريض من التصادم والتنازع، أرسى الكثير من الضغائن والكراهيات بين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين.

وهو في كل كتبه، وفي بعض أبرز مقالاته، حاول بحماسة مفعمة بالتفاؤل أن يبشر بتجاوز تاريخي لماضي سوءات الفهم وذاكرة المآسي والاقترافات المتبادلة، كما بتجاوز “الشقاق الأهلي” الذي أصاب كل من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين.

وعلى وعود “الديموقراطية” وشروطها، راهن قصير بإفراط شاعري (كما نحن) للتخلص من مفاسد الطائفية في لبنان، ومن شقاء الديكتاتورية في سوريا، ومن مأساة الاحتلال في فلسطين. وكان سمير قصير، بهذا المعنى، وجه التسعينات وروحها. حين سادت لغة “الأمل” والشعور بقوة “التاريخ” بل وإحساس غامر أن جيلاً جديداً على وشك الإمساك بقيادة الزمن ومجراه.

وما بين العام 1999 و2005، بذل سمير قصير كل طاقته وحيويته للمساهمة في حياة ثقافية بيروتية تتنكب قولاً سياسياً معارضاً يقطع مع ذاكرة الحرب تماماً، وتعيد لبيروت نفسها “دوراً” عربياً تنويرياً وتغييرياً، وبالأخص احتضاناً للاعتراض السوري ودعماً للاستقلال الفلسطيني. وفوق هذا، ما هو أهم، أي تهفيت خطاب “الممانعة” وكشف زيف ادعاءاتها (لبنانياً وسورياً وفلسطينياً). ذاك الخطاب، الذي رآه قصير عبارة عن استئنافٍ لحرب أهلية في لبنان، وتجديدٍ للاستبداد العربي، وخطفٍ للقضية الفلسطينية.

ليس لنا أن نروي سيرة ما حدث حتى لحظة اغتياله، ولا أن نروي ما يحدث منذ العام 2011 وحتى اليوم، كي نعرف أن سمير قصير لم يخسر حياته فقط، بل خسر هو ونحن فلسطين وسوريا ولبنان.. وانتصر “شقاء” الطائفية والعنصرية والديكتاتورية، وانتعشت “الممانعة” سيدة على مصيرنا.