ما انفكّ المنظرون الإسلاميون المعاصرون عن تأكيد مدنية الدولة التي يدعون إليها، مستدلّين على مدنيّتها بأدلة عديدة، تأتي على رأسها تجربة دولة المدينة، والوثيقة التي عُدّت دستورًا لتلك الدولة.

وإذ يأخذون المفاهيم مفصولة عن أصولها، فإنهم يضيفون إلى عبارة الدولة المدنية، إضافة كفيلة بسلب مدنيتها، وهي الإضافة الأثيرة لديهم:” ذات مرجعية إسلامية”.

وسلب مدنية الدولة بسبب هذه الإضافة؛ لأن من ماهية الدولة المدنية -كما تبلورت في فكر منظريها الغربيين-عدم وجود مرجعية متجاوزة لهذه الدولة، دينية كانت أم غير دينية.

وما يزيد الهوة اتساعًا بين دولتهم المدنية المزعومة، وبين الدولة المدنية، هو تقديمهم المجتمع على الفرد، بينما يمثل الفرد في الدولة المدنية بؤرة التركيز، وتُشتق من حقوقه حقوق المجتمع.

أما الفرق الواضح الثالث بين الدولتين، فهو أن الدولة في الفكر الإسلامي مؤسسة جيدة، تضطلع بمسؤولية تحويل المجتمع إلى مجتمع ورع تقيّ.

أما الدولة المدنية في الفكر الغربي، فهي مؤسسة مهدّدة، يجب تقييدها بالدستور؛ لكيلا تجور على الأفراد بما تملكه من سلطات.

لا شكّ في أن وثيقة دولة المدينة سبق حضاري مهمّ؛ بتكريسها مفهوم المواطنة العابر للاختلافات العقدية بين المسلمين، والقبائل غير المسلمة في المدينة المنورة، ولكنّ الاستدلال بها للتأكيد على مدنية الدولة مقارنة لجزئيات بجزئيات، مع إغفال الإطار العام الناظم للجزئيات في المنظومتين: العربية والإسلامية.

وهي مقارنة غير علمية، وقد يكون دافعها محاولة أبناء المجتمع المتخلف الدفاع عن كينونتهم وقيمهم، وإثبات أنها لا تقل شأنًا عن قيم المجتمع المتقدم.

فالمتأمل في الإطار الكليّ لكل من المنظومتين، سيجد الفروق التي ذكرناها آنفًا، والتي تثبت عدم كفاية التشابه الجزئي من جهة، واختلاف ماهية الدولتين الإسلامية والمدنية من جهة أخرى.

صحيح أن الدولة التي يتحدث المفكرون الإسلاميون عنها ليست توليتارية، ولا عسكرية، ولا ثيوقراطية، ولكنّ هذا لا يكفي لكي توصف بالمدنية بالمعنى المعاصر.

يمكن عبر مقاربة أخرى، تستند إلى أصول العقيدة الإسلامية إثبات الضرورة المنطقية لعدم حاجة الدولة لمرجعية متجاوزة، والتغلب على الفرق الأول.

فتفكيك الأصل الأول من أصول المعرفة الدينية، كفيل بكشف عوار المقولة التي تلزمنا بالاستناد إلى المرجعية المتجاوزة، وهي المقولة التي فحواها: أن المعرفة الأخلاقية لا يمكن اشتقاقها إلا من المعرفة الدينية؛ فالأصل الأول للمعرفة الدينية يقوم على أساس وجود خالق واحد كليّ القدرة، كليّ العلم، كليّ الإرادة، كليّ الخير، والصفة الأخيرة تفترض -ضمنًا- قدرة لدى العقل البشري الذي يدعي متبنّو الأطروحة التي نناقشها، أنه واسطتهم إلى المعرفة الدينية، وعلى تمييز الخير من الشر، أو ميزانًا يزين به الخير من الشر، وإلا فما أدراه أن هذا الخالق الواحد ليس خالقًا شريرًا.

ولا ينفع في الإجابة عن هذا السؤال القول: إن ما يأمر به الخالق هو الخير، وما ينهى عنه هو الشر؛ لأن هذا يستلزم طاعته حتى لو أمر بقتل أبرياء مثلًا، كما لا ينفع القول إن أوامره هذه تنطوي على خير آجل، غير مدرك؛ لأن هذا يعيدنا إلى سؤالنا الأول عن كيفية تمييزنا لخيريته الكليه المدّعاة، من دون امتلاكنا ميزانًا نزين بواسطته الخير من الشر.

نخلص من هذه المناقشة إلى أن المعرفة الأخلاقية لا بدّ منها منطقيًا؛ للوصول إلى المعرفة الدينية، فهي سابقة عليها، وليست مشتقة منها.

يعني هذا أن بإمكان المسلمين أن يؤسسوا نظام دولتهم الذي يحمي مصالحهم من دون مرجعية متجاوزة، ويمكن الاكتفاء باستلهام قيم الإسلام، التي تتقاطع تقاطعًا كبيرًا مع قيم الحداثة، وتضمين أحكام شرعية في مدونات قانونية بشرطين: الأول أن يُتفق على أن وجودها ضمن مدونة قانونية يزيل عنها صفة القداسة، والثاني: أن يحصل هذا بإرادة ممثلي الشعب، لا بالقسر.

أما الاختلاف في بؤرة التركيز على الفرد في الدولة المدنية، وعلى المجتمع في الدولة الإسلامية، فيبدو أنه خلاف عصيّ على التوفيق؛ لأنه مرتبط ارتباطًا عضويًا بمنزلة الكلي والجزئي في المنظومتين، فقد سادت فلسفة الفردانية في الفكر الغربي؛ لأسباب عديدة، لا يتسع المجال لذكرها، ولكن النتيجة السائدة التي كرستها نظريات فلسفية، وسيرورة تاريخية معينة، هي عدّ الموجود هو الجزئي، والكليّ ليس سوى اسم لا وجود له في الواقع، ومن هنا، صار الاحتفاء بالفرد نتيجة طبيعية؛ لأنه هو الموجود الحقيقيّ.

وهذا اختلاف جذري عن المنظومة الفكرية الإسلامية، التي لا يمكن أن تضع الكلي في غير موقع الصدارة، لأنها منظومة تتمحور حول التوحيد، الذي يفترض الإيمان بالكليات كعلم، إضافة إلى الخالق، وكموجودات في الأعيان، إضافة إلى الإنسان، ولا تستطيع نتيجة ذلك أن تضع الفرد في موقع الصدارة.

ويبدو الفرق الثالث في عدّ الدولة جيدة في الفكر الإسلامي، ومهددة في الفكر الغربي، مشتقًا من الفرق السابق؛ ولهذا فلا نرى داعيًا لتكلّف فرض صفة المدنية -بالمعنى الغربي- على دولة الإسلاميين، ويمكن الحديث -بعد جسر الهوة المسبّبة عن الفرق الأول- عن دولة مدنية بخصوصية إسلامية؛ لكيلا نسلب صفة المدنية بعبارة “ذات مرجعية إسلامية” من جهة، ولا نغفل الفروق التي تصعب إزالتها بين منظومتين، لا يمكن قسرهما على التطابق من جهة أخرى.

ونقصد بالخصوصية الإسلامية الاعتراف بالفرقين الآخرين، ونقصد كذلك قيمًا حضارية إسلامية، يمكن استخراجها من نظرة كلية لا تجزيئية للنصوص، ومن مقاصد التشريع، لا نصوصًا مأخوذة بحرفيتها، وبتفسير أحاديّ لها.