علامة الاستفهام الكبرى التي يرسمها حدث اغتيال جمال خاشقجي ليست على التفاصيل الجنائية بل على الأبعاد التي طوتها الضجة الإعلامية لحساب غاياتها المعلومة، ذلك أن أحداثاً أكثر فداحةً و إجراماً لم تحظَ بهذا القدر من الإصرار على رفع الغطاء عن الفاعل رغم افتضاح أمر الكثير من المجرمين سواء في حالات الجرائم الفردية أم الجماعية. و لعل حالتي الحريري – خاشقجي هما الأكثر سطوعاً في تجلية البعد السياسي الحاكم في تقرير قيمة الدم المراق، و فيما إذا كان الجاني سيدفع الثمن أم تنطوي القضية تحت ركام السطور .
لِمَ لَمْ يُرفع الغطاء مثلاً عن الجهة التي اغتالت القيادي في حماس “محمود المبحوح” في أحد فنادق دبي عام 2010؟ لقد فُضِحَ أمر فريق الاغتيال الإسرائيلي الذي نفذ العملية بالتعاون مع أعوان محليين، لكن القضية وضعت في ثلاجة المطابخ السياسية الدولية و قُضيَ الأمر .
بالمثل، و في الاتجاه المعاكس لِمَ انعقدت محكمة دولية خاصة للكشف عن ملابسات اغتيال “رفيق الحريري” -و هي سابقة لم تحدث لسواه- رغم كثرة الحوادث المشابهة في لبنان و العالم ؟! الشيء ذاته يتجلي في حالة خاشقجي و الذي عوملت قضيته على غرار ما حدث للحريري و لم تُطوَ ببساطة كما في حدث اغتيال المبحوح .
لا يحتاج الأمر لذكاء لإدراك الفرق فهو يتجسد – فضلاً عن غايات التوظيف السياسي – في طبيعة الضحية فالحريري و خاشقجي من طبقة الخاصة و كلاهما من حاشية النظام الدولي و من أصحاب العلاقات الحميمة مع دولته العميقة و المسّ بهما يعني تحدّياً للمقدس السياسي فدماء أصحابه الزرقاء تتخطى قيمتها دماء سواهما من ضحايا الاغتيال بما في ذلك ملايين القتلى في سورية و العراق و فلسطين و بقية المجازر الجماعية التي لا شك في هوية الجناة فيها، و لا يحاكمون إلا إذا لم يكونوا من “آل بيت” النظام الدولي. المشكلة تنحصر في هوية الضحية أهي من الحاشية أم من الرعية، و على هذا الأساس فقط يتحدد أسلوب التعامل و مآل القضية.
هذا كله ليس بجديد، أما الجديد و ما أذهلني حقيقةً، فهو نعي خاشقجي كشهيد على صفحات الكثيرين من أنصار الثورة السورية كشعلةٍ للحرية و رمز للديمقراطية، و هو في واقع الحال رجل مخابرات و أجندات و شهادة تاريخه دامغة كما هي شهادته هو ذاته عن طبيعة دوره و عدم معارضته الجذرية للنظام الذي خرج من عباءة عرابه الجديد، و ثمة شبهة و قرائن تشي أنه كان في طريقه إلى حضن الأجندة القطرية المنافسة، و كان أمراً ذا دلالةٍ أن يرثيه “وضاح خنفر” أحد أبرز وجوه تلك الأجندة و دموعه تنهمر بغزارة !
هذه السطور لا تهدف لتبرئة القاتل، و لا التقليل من بشاعة الجريمة المُدانة لكنها تشترط ردّ الدم إلى أصله الأحمر، و مساواته بدمائنا المستباحة، و عدم تقديسه و محضه مكانةً لا تنبغي له. على الذين زينوا صفحاتهم بنعوة خاشقجي أن يطلوا دماءهم بلونٍ أزرق – إذا رغبوا و استطاعوا – و إلا فليستعيدوا كريات إنسانيتهم الحمراء.

مُناف الفتيّح