«باقية وتتمدد».. لا يُمكن إنكار احتمالية الصواب في الشعار الذي يردده أنصار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). على الأقل الجزء الأول (باقية) بصورة نسبية، فعلى كل حال لا أحد يعلم ما الذي تحمله الأيام، رغم كل محاولات استشراف المُستقبل.

(1)

لا تتفكك شبكات المصالح بسهولة، وإن حدث ذلك، سيبقى المستفيدون منها يُثابرون لحماية مكاسبهم وانتصاراتهم الصغيرة الشخصية لأقصى درجة. هؤلاء في حالتنا هم من يُعرفون بـ”أمراء الحرب”، الذين تنقلت بهم الحياة من بلد لآخر ومن جبهة لأخرى. يلتقطون أنفاسهم ما بين الحين والآخر، حين يركد سوق القتال، مُتنعمين بما امتلأت به جُعبهم من غنائم الحرب.

وتتغيّر أنماط حياة الناس وفقًا للظروف التي يُوضعون فيها. وفي مرحلة ما من الانخراط في نشاط مُعيّن، تُصبح العودة شبه مُستحيلة، ولا مفر من الاستمرار للنهاية. على ما يبدو إذًا، لم يكن خيار الانسحاب مُتاحًا بما فيه الكفاية أمام أسامة بن لادن، كما هو الحال مع سالي جونز أو “أم حُسين”، بعد أن هجرت للأبد غناء الروك في سبيل “قطع رقاب الكُفار” مع تنظيم الدولة الإسلامية، كما تقول هيَ.

وليس تنظيم الدولة وحده من يمثل هذه الحالة، فأمراء الحرب هم إفراز معارك الجهاديين أمام السوفييت في أفغانستان، ومن انتقل منهم للقتال في البوسنة والهرسك وفي الشيشان وغيرها من الجبهات، قبل أن يستقر المقام في سوريا والعراق، وهُناك يتصادف أن تتبدل الأحوال، ولأول مرة يُصبح بإمكان أمراء الحرب أن يكونوا أمراءً بحق في دولةٍ تُروّج لحلم “الإمارة للجميع”.

(2)

يُقال إن داعش هو “التهديد الإرهابي الأخطر” في العصر الحديث، وتطرح تلك المقولة وغيرها من المقولات التي تُشير إلى “وحشية” التنظيم؛ تساؤلات حول معيارية التهديد والخطر فضلًا عن الإرهاب. وفي ضوء سلسلة الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ 2011، ثمّة محطات هامة بمثابة نقاط مفصلية مُؤثرة في حركة الأحداث واتجاهات القوى وتأثيرها، لا نعلم إن كان هُناك اتفاق بين السلطات العالمية على تجاهلها أم لا. لكن في رأينا يكشف الواقع عن شبهة تجاهل، أو على الأقل قصر نظر، وربما مُحاولة للتبرّؤ. بمعنى أنه لا يُمكن تناول ظاهرة داعش دون النظر بتفحّص للسياق المُحيط بها، فالتعامل معها بشكل مُنفصل عن ذلك السياق، أو باعتبارها مُجرّد تهديد إرهابيّ يُثير الفزع؛ هي نفسها –تقريبًا- النظرة التي يسعى التنظيم نفسه لتكريسها في خطابه الدعائي، والتي على ما يبدو، تُساهم في استمرار وجود التنظيم وربما تضخمه، ولفترة ليست بالقصيرة.

تنظيم الدولة الإسلامية لم ينشأ من الفراغ

تُفسّر قاعدتا “التراكم الكمّي يُؤدي لتغيّر نوعي” و”لكل فعل رد فعل” نشأة وظهور تنظيم الدولة الإسلامية. وفيما يعتبر البعض أن داعش ليس امتدادًا لتنظيم القاعد، نرى أنّ داعش هو التطور الأكثر منطقية للقاعدة وما تمثله. ولا تنطلق فرضيتنا فقط من معلومة أن داعش في البداية كان تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين حين أسسه أبو مصعب الزرقاوي إبان غزو العراق عام 2003، ولا أن عددًا من قادة تنظيم الدولة خرجوا من عباءة القاعدة بعد أن حلّوا بيعتهم للظواهري.

ما لا تنظر إليه الحكومات في خضم حربها على ما يسمى بالإرهاب هو المفهوم. ما الذي يعنيه “الإرهاب”؟ فالحكومات تمتلك من السلطان ما يجعلها القائم على تحديد المفاهيم، بصرف النظر عما قد يبدو تناقضًا في وصم أحدهم بالإرهاب من قبل مُؤسسة تُمارس جُملة من الأفعال التي لا تخرج كثيرًا عن دائرة الممارسات التي حَددت بها الفعل الإرهابي. لذا وعلى ما يبدو، فإن الحكومات والسلطات الدولية تتغاضى عن مُحاولة فهم الدوافع وراء العنف الجماعي المنظم، والذي غالبًا ما يكون رد فعل.

هذا ولا يعني تطور الحالة وانتقالها من نُقطة إلى أخرى، انفصالها عن أصولها ولا سياقها الذي تطورت عبره. لذا يبدو خطأً القول بأن داعش ليس امتدادًا لتنظيم القاعدة، أو أن تنظيم القاعدة نفسه، في مراحل متأخرة، ليس امتدادًا أكثر راديكالية لحالة رفض النظام العالمي وخطابه. يُمكننا القول إذًا، إنّه بعد تجاوز عقبة الأيديولوجيا يُمكن رؤية رابط بين تنظيم القاعدة وبين حركة الهيبيز، وبين تنظيم الدولة الإسلامية وبين الاتحاد السوفيتي. جميعهم ظهروا كرد فعل على النظام العالمي، بعضهم جنح للسلم، وبعضهم مال للعنف عندما هيأت له الظروف ذلك، وجميعهم ينطلقون من أفكار ومُخططات ثورية بشكل أو بآخر.

كان مكتب الخدمات الذي أسسه عبد الله عزام في مدينة بيشاور الباكستانية، منتصف الثمانينات، بمثابة نُقطة البداية في تنظيم ما يُمكن تسميتها بـ”حركة الجهاد العالمي”. اللافت للانتباه أن المكتب افتتح مركزًا للتجنيد في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُعتقد أنّ عمر عبد الرحمن كان من أبرز القائمين عليه، بالإضافة إلى شخص يُدعى علي مُحمد، كان جورج كرايل، مراسل شبكة “سي بي إس” الإخبارية الأمريكية، قد وصفه بالمدرب الأول لأسامة بن لادن، وهو نفس الوصف الذي استخدمه عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي) جاك كلونان. علي مُحمد هذا كان مُجنّدًا سابقًا في الجيش الأمريكي، وعميلًا للمخابرات الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالية.

وقبل أن تتبرأ الولايات المتحدة من القاعدة مع إعلان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الحرب عليها في التسعينات، كانت تدعمها بمئات الملايين من الدولارات بطريق دول وسيطة أو مُباشرة عبر عُملاء تابعين لها، فضلًا عن الدعم اللوجيستي والميداني بالتدريب والتخطيط العسكري. في كتابه “حروبٌ غير مُقدّسة“، يقول الصحفي الأمريكي جون كولي إن المتورطين في تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، اعتمدوا على دليل لصنع المتفجرات كانت قد أعدته المخابرات الأمريكية خصيصًا للمجاهدين العرب في أفغانستان. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ إن الولايات المتحدة قد أنشأت نظامًا مُتكاملًا يُتيح لعناصر القاعدة التنقل دوليًّا عبر تأشيرات سفر أمريكية قانونية، قبل أن ينقلب السحر على الساحر.

كان لدى الولايات المتحدة الأمريكية هاجس أكبر من “التشدد الديني” ممثل في الشيوعية التي بدا أنها في طريقها نحو الانهيار ولا يحتاج الأمر سوى دفعة صغيرة للاستقرار في الهاوية. لكن في المقابل أيضًا يبدو بقاء الولايات المتحدة دون خطر خارجي أمرًا مُهددًا لطموحها الخارجي.

وبقراءة تاريخية بسيطة نستطيع رؤية ما يبدو تناقضًا في السياسات الخارجية للولايات المتحدة، بدايةً من الحرب العالمية الثانية التي كانت أمريكا فيها حليفة الاتحاد السوفيتي ضمن دول التحالف المُجابهة لمحور النازية والفاشية. عقب الانتهاء من الحرب انتقل العداء بين أمريكا والسوفييت عبر حرب بادرة دامت عقودًا طويلة قبل أن يُصبح الخطر الجديد هو “الإرهاب”.

وكانت أمريكا قد أعدت قائمة سوداء طويلة بالمنظمات والشخصيات الإرهابية وبالدول الداعمة للإرهاب، شملت تلك القائمة نظام ولاية الفقيه في الإيران. نفس النظام الذي تحالفت معه أمريكا في غزوها لأفغانستان ثُمّ العراق. وقد قال مسؤولون إيرانيون، إنّه لولا دعم بلادهم لأمريكا لما استطاعت إسقاط كل من كابل وبغداد.

وعلى كل حال يبدو أن الخط الفاصل بين العداء والصداقة لدى الولايات المتحدة باهتًا واحتماليًّا، كما يبدو أيضًا أن أغلب التدخلات الأمريكية الخارجية للانتهاء من أعدائها، أدت إلى خلق أعداء جُدد، في أحيانٍ كثيرة يكونون أكثر تشددًا من القدامى، مثلما حدث في أفغانستان لإسقاط السوفييت، وقبلها في إيران لإسقاط رئيس الوزراء محمد مُصدّق وما أدى إليه ذلك من صعود قوي للتيارات الدينية، ثُم في العراق الذي أدى سقوط نظام صدام حسين فيها إلى خلق فراغ تصارعت عدة قوى وطوائف لملئه، كان من بين أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية.

معظم الدراسات والتقارير، الأمريكية منها على وجه الخصوص، التي تتناول بالتحليل والتفسير تنظيم الدولة الإسلامية، تغافلت الإشارة إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية الفعال في ظهور ما بات يمثل التهديد الأخطر بالنسبة لها، بداية من نظام التأشيرات الذي سهّل تحرك عناصر القاعدة وصولًا إلى العراق، مرورًا بغزو العراق وما تضمنه في فظائع قتل وتعذيب تورط فيها الجيش الأمريكي، نهايةً بدعم نظام حكم جديد طائفي يتصادف أنه مدعوم من إيران وبقوة. هذا النظام أشعل فتيل الثورة ضده، والتي استطاع داعش أن يستغلها كما ينبغي.

سؤالا الثورة والدولة عند داعش

يٌقدم تنظيم الدولة الإسلامية نفسه باعتباره مُعطى إلهيًّا، مُجاوزًا للتاريخ من جهة ومتفاعلًا معه من أخرى. فأدبيات التنظيم تجاوزت الدوافع المُباشرة، الطبيعية والمنطقية لنشأته كرد فعل على الغزو الأمريكي للعراق الذي دفعه في البداية للتحالف مع تنظيمات وحركات عسكرية أُخرى مُقاومة مشكلة أساسًا من عراقيين؛ إلى تقديم نفسه كممهد حتمي لظهور “المهدي المنتظر”، لذا كانت دولة الخلافة (التي بدأت بدولة العراق الإسلامية وعاصمتها بعقوبة العراقية في 2006) هي الممثل الوحيد للإسلام الصحيح رغم أنها تنطلق من جملة أفكار دعوة محمد بن عبد الوهاب التي تبنّاها آل سعود منذ الدولة السعودية الأولى.

1- الثورة:

يتحدث الغرب عمّا يعرفونه لا عمّا تعرفه الشعوب التي لم تواكب عمليات التحديث المفروضة من الشمال؛ لذا حين يتحدث المجتمع الدولي عن دولة مثل مالي، فإنه يُشير لعمليات التحديث و”الإصلاح” السياسية: عن الدستور العلماني والنظام الديمقراطي. لكنه لا يتحدث عن أنّها جميعًا مُحاولات فُرضت بالسلاح من جهة، وصاحبها فساد مالي وإداري لأقصى درجة، من أُخرى. والأهم من ذلك أن المجتمع الدولي، أو فرنسا تحديدًا، لا تُفضّل غالبًا الالتفات لتاريخ مليء بالعنصرية والقمع الانتقامي الذي مارسته ضد الشعب المالي وغيره من الشعوب الإفريقية، ولا للضرائب التي ما زالت تفرضها حتى الآن على دولة لم يحظَ شعبها بأي استقرار على مدار عقود طويلة في العصر الحديث.

بالجُملة، كل محاولات الاستقلال والإصلاح السياسي والاقتصادي الجادة في إفريقيا تعرضت لإجهاض الغرب لها. ومُعظم محاولات الإجهاض هذه تضمنّت استخدام العنف المُسلّح؛ فلماذا إذًا لا يُنظر إلى ما يُسمى بـ”الإرهاب” الذي بات مُستشريًا في إفريقيا عبر عشرات التنظيمات، في سياق “فبما كسبت أيديكم”؟ أي كرد فعل ثوري يسعى للانعتاق من الخطاب الحداثي السائد والمُكرّس له بالقوة.

في أواخر القرن التاسع عشر، غزت الولايات المتحدة الأمريكية الأراضي الفلبينية بدافع “الواجب المقدس في نصب خيمة الحرية” كما دعا وحثّ السيناتور الأمريكي، ألبيرت بيفيريدج في خطابه الشهير “زحف العلم”. في طياته يحمل “الواجب المقدس” الأمريكي إقصاءً لخيارات الشعوب التي تتعرض للاحتلال، وما يعنيه ذلك على كافة المستويات، في سبيل تحقيق الولايات المتحدة لهذا الواجب ولحلمها الخاص؛ ومع ذلك كان غريبًا بالنسبة للأمريكيين آنذاك، المقاومة الشرسة التي قابلتها قواتهم من الشعب الفلبيني، بخاصة وأنّها في البداية قوبلت بالترحيب إذ روّجت لمجيئها بشعارات مثل “تحرير الفلبينيين من الاحتلال الإسباني”، وكما يقول المثل إذا عُرف السبب بطل العجب. وكان السبب ما أورده الصحافي الأمريكي ستانلي كارنو في كتابه “الإمبراطورية الأمريكية في الفلبين“، وهو تحقيق استقصائي حائز على جائزة بوليتزر.

ينقل كارنو في الكتاب عن سيناتور أمريكي زار الفلبين إبان الغزو، قوله: “قتَلَ الجنود الأمريكان كل رجل وامرأة وطفل، وكل سجين أو أسير. لقد كانت أوامر قائد الحملة الأمريكية واضحة: لا أريد أسرى ولا أريد سجلات مكتوبة. لقد قتلوا كل مشتبه فيه بدءًا من سن العاشرة”.

وفي الوقت الذي يرى البعض أن تنظيم الدولة الإسلامية ينطلق من أيديولوجيا رجعية، لا يُمكن أيضًا تجاهل السياق التاريخي المموضع فيه، والذي يجعل منه حلقة من حلقات ردود الفعل الثورية على النظام العالمي والقوى المسيطرة عليه، بأهداف أُممية يُشاركها الشيوعيون الثوريون، وخطاب حاد راديكالي و”متطرف” يُشاركه الجماعات اليمينية والنازيون الجدد في أوروبا، وكُفر بالحداثة والنظام الرأسمالي يُشاركه –ويا للعجب- حركة الهيبيز وما على شاكلتها.

الظهور المدوي لداعش جاء على ظهر ثورة العشائر السنية العراقية ضد الحكومة الشيعية المتهمة بسياساتها وممارساتها الطائفية، بالإضافة إلى أنّ كثيرًا من المنضمين لداعش، في تلك الأثناء وما لحقها، هم من أبناء هذه العشائر. واستطاعت قيادات التنظيم أن تُؤسس لحالة من التوافق بينها وبين القيادات العشائرية، لدرجة ساعدت التنظيم على بسط نفوذ ديموغرافي له في مناطق انتشار السنة. وما عزز من موقف التنظيم، عملياته التي استهدفت بعضًا من السجون العراقية سيئة السمعة، كاستهدافه سجني أبوغريب والتاجي في يوليو 2013، في عملية أسفرت عن تحرير أكثر من 6 آلاف سجين، حتى أنها وُصفت بأكبر عملية تحرير سجناء نظمتها جماعات جهادية في العراق.

يُضاف إلى ذلك وقوف التنظيم إلى جوار العشائر في معركتها المفتوحة مع الحكومة العراقية بُعيد فض اعتصام الأنبار في ديسمبر 2013، حيث شارك –تقريبًا- في كافة المعارك التي خاضتها العشائر ضد قوات الجيش والشرطة العراقية المتحالفة مع ميليشيا شيعية مدعومة من إيران. وفي كل تلك المعارك تطوع التنظيم بالقتال تحت إطار ما سُمّي بـ”قوات الثوار” التي شملت عدة مجموعات مُسلحة، بينها ما يُعتقد أنها مُرتبطة بعناصر بارزة في حزب البعث العراقي. وعلى كافة وسائل الإعلام أكد قيادات العشائر المنظمين فيما يُسمى بالمجلس الأعلى للعشائر، أنّ تنظيم الدول حليف في المعركة، قبل أن يستطيع الأخير أن يستفيد من هذه الحالة الثورية ليُعلن المحافظات العراقية الخارجة عن نطاق سيطرة الحكومة، ولايات إسلامية تابعة لإدارة “دولة الخلافة”.

يُمكن القول إذًا إن تنظيم الدولة الإسلامية يُمثّل حالة ثورية على عدة أوجه. وهو قول مُفسر بدرجة كبيرة لانضمام أعداد ضخمة من الأجانب لصفوف التنظيم. نسبة كبيرة من هؤلاء الأجانب لم يكونوا مسلمين قبل انضمامهم. وفي سياق متصل يُصبح مفهومًا أيضًا حالة النزوع العالمي القاعدي نحو الهوى اليساري سياسيًّا أو حتى بدء انتشار التعاونيات الاقتصادية ذاتية الإدارة، والتي يُمكن اعتبارها صورةً أولية للكومونات. ومن جهةٍ أُخرى ازدياد أعداد المنضمين للجماعات اليمينية المتطرفة أوروبا والغرب عامةً. وهذه الحالات عمومًا يُمكن النظر إليها باعتبارها تمظهرات بداية انهيار الرأسمالية وحقبة الحداثة.

من تلك الأوجه أيضًا استبطان أيديولوجيا التنظيم خطابًا ثوريًّا، يراه البعض امتدادًا تقليديًّا لفكر الخوارج الذين مثّلوا أقصى درجات الحراك الثوري العنيف ضد سلطة الخلافة الإسلامية في أزمنة مُختلفة. لكن حتى مع التفسيرات الدينية التي يتبناها داعش، التي غالبًا ما تُنسب لابن تيمية ثُمّ محمد بن عبد الوهاب؛ فجميعها تنطلق من رفض الخطاب السائد آنذاك، كما أنّها –في حالة ابن تيمية- مثلت آراءً ثورية على السلطان وفقهائه، وفي حالة ابن عبد الوهاب كانت لها ذراع مُسلح حقق لها وجودًا على الأرض. وإن كانت مع ابن تيمية قد أتت في سياق ثورة ضد عدو خارجي على وجه التحديد، فإنها في الحالة الوهابية جاءت في سياق ثورة داخلية على مستويين، أحدهما قاعدي/ أيديولوجي، والآخر سياسي ضد زعماء القبائل في الجزيرة العربية.

2- الدولة: 

لم يستطع تنظيم القاعدة في أفغانستان أن يُحقق أي حالة نظامية أو “دولتية” إن جاز التعبير. لكن هل يعني ذلك عدم رغبته المسبقة القيام بذلك؟ لدى تنظيم القاعدة رؤيته حول العدل والجور المنطلقة من تأويلات إسلامية، وفي أدبياته يبرز حلم الخلافة الإسلامية العادلة باعتباره الطموح الأقصى دُنيويًّا، وهو طموح تشترك فيه تقريبًا كل الحركات والجماعات الإسلامية. ولا ننسى أن جُملة من قيادات تنظيم القاعدة، على رأسهم الزعيم الحالي للتنظيم وخليفة المؤسس أيمن الظواهري، كانوا من عناصر تنظيم الجهاد الإسلامي المصري الذي كاد أن يتملك زمام الأمور في مصر عبر عملية اغتيال السادات، وهي العملية التي هدفت إلى إنشاء الدولة الإسلامية المنشودة.

لكن الظروف كانت أقوى من تنظيم القاعدة على عدة مستويات، من جهة ظل القاعدة في أفغانستان مُنغلقًا على العنصر العربي أو من عرفوا بـ”العرب الأفغان” طوال فترة الحرب ضد السوفييت ومن بعدهم النظام الشيوعي، في مقابل عشرات الآلاف من المقاتلين الأفغان الذين كوّنوا حركة طالبان، التي حكمت البلاد بنظام إسلامي عدة سنوات، كان القاعدة خلالها يدين بالولاء للملا عمر وقادة الحركة. من جهة أُخرى تحكمت ديموغرافيا أفغانستان في تحديد دور القاعدة الذي كان تخطيه له يعني حربًا مفتوحة ليس فقط مع النظام (حركة طالبان) ولكن أيضًا مع المجتمع الذي يأويه. لذا في المُقابل عمل التنظيم على إستراتيجية مُختلفة: تصدير النموذج على أوسع نطاق مُمكن.

بالنسبة لداعش كان الوضع مُختلفًا، فالبزوغ الحقيقي لنجم التنظيم جاء مواكبًا لثورتين: ثورة العشائر السنية في العراق والثورة السورية. الثورتان تعنيان سحب الشرعية من تحت أقدام النظامين الحاكمين في كلا البلدين، وحالة من الفوضى والغضب تنتظر من يُحسن استغلالهما.

في سوريا كان تنظيم جبهة النصرة ذراعًا غير مُعلَن لتنظيم الدولة، وهو ما كشفت عنه الأيّام لاحقًا حين أحسن أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم، استغلال الفرصة بإعلانه جبهة النصرة امتدادًا لتنظيمه في العراق، وإلغاء اسمي كلا التنظيمين ليُصبحا كيانًا واحدًا وهو الدولة الإسلامية في العراق والشام. كانت تلك الخطوة من البغدادي حاسمة لصالح تنظيمه، بخاصة وأن أبا محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة لم يُنكر أن هناك علاقة مُسبقة مع تنظيم الدولة. وفي سبيل نزع الشرعية عن خطوة الاندماج الكامل أعلن الجولاني مُبايعته المُباشرة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. في تلك الأثناء تمايزت صفوف جبهة النصرة، وانتقلت أعدادٌ كبيرة من مقاتليه بسلاحهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

ومنذ تلك الأثناء وحتى الآن، اندلعت المعارك بين التنظيمين. وبدا خلالها أن الغلبة تأتي لصالح تنظيم الدولة الذي فرض سريعًا سيطرته على مُدن كاملة في سوريا أعلنها لاحقًا ولايات إسلامية تحت مظلة دولته.

أما في العراق فساهمت عدة عوامل على أن يُرسّخ التنظيم قدمه، منها ما أسهبنا في ذكره تحت عنوان “الثورة”، ومنها أيضًا، وهو عامل هام، اعتماد التنظيم بشكل أساسي على عراقيين في المراكز القيادية. وهو الأمر الذي سهّل على التنظيم استيعاب طبيعة المُحيط الذي يُقاتل فيه وبالتالي اقتحامه، لا عسكريًّا فقط، وإنما أيضًا اجتماعيًّا، ما يُفسر تحالفات التنظيم الواسعة مع العديد من القبائل والعشائر العربية السنية في العراق.

المُخلفات العسكرية للمعارك التي خاضها تنظيم الدولة ضد جميع خصومه، بما فيها من طائرات وأسلحة ثقيلة، عززت من قدراته العسكرية، التي عزز منها موارده المالية المتجددة من آبار النفط التي يُسيطر عليها في كلٍّ من العراق وسوريا. وقد كان هذا جزءًا هامًا من إستراتيجية داعش (أي السيطرة على نحو 60% من نفط سوريا وعدد من الآبار والمصافي في العراق) التي تستهدف مرحليًّا التفوق العسكري لكسب مزيدٍ من الأرض، وإن عنى ذلك انقسام المعارضة في سوريا وتشتيت جهودها، أو حتى التحالف أحيانًا، في بعض المعارك، مع قوات النظام السوري، بحسب ما كشفت عنه تقارير.

وعلى هذا النحو كانت خطوات التنظيم نحو تأسيس دولته التي يُفضّل البعض اعتبارها “دولةً انتقامية”، بينما سنقول إنّها دولة غاضبة كحال الدول التي تُنشأ في سياق ثوري. والثورة عمومًا رد فعل غاضب. لكن هل سيهدأ هذا الغضب يومًا ما؟

الدولة الإسلامية«باقية وتتمدد»

علينا أن نفهم أن تنظيم الدولة الإسلامية أصبح بلدًا الآن. *يورجين تودينهوفر

في زيارة تُعد الأولى من نوعها لصحافي وباحث أجنبي، زار الألماني يورجين تودينهوفر، في 2014، مدينة الموصل الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، ليؤكد بعد الزيارة أن داعش “أقوى بكثير مما كنا نعتقده”. تودينهوفر، المعروف بمعارضته الشديدة للولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل وتعاطفه مع بشار الأسد، أكّد أن الضربات الجوية الغربية ضد معاقل التنظيم لا تُجدي نفعًا رغم مزاعم دول التحالف.

وصف تودينهوفر الحالة النظامية داخل الموصل، إحدى كبرى “ولايات الدولة الإسلامية”، قائلًا إن داعش استطاع “تحقيق الصعب” بأن جعل من نفسه “دولةً فاعلة”، مُشيرًا إلى نظامي الرعاية الاجتماعية والتعليم داخل حدود الدولة الناشئة حديثًا، ومُعربًا عن اندهاشه من أن النظام التعليمي قد شمل الفتيات أيضًا.

لدى داعش أيضًا، الذي كان يسيطر حتى أواخر 2014 على مساحة تزيد عن مساحة بريطانيا، نظامًا مُؤسسيًّا صارمًا بدرجة كبيرة. لديه مُؤسسات مُختلفة معنية بمجالات متعددة كالأمن والقضاء والتعليم والصحة والمالية، كما أنّ لديه قوانينه المُعلنة في مناطق نفوذه والتي تُحاسب عليها مُؤسسة الشرطة التي تتضمن شرطةً نسائية.

الآن بات واضحًا أن داعش ينطلق من إستراتيجية مُحددة: مزيدٌ من النفوذ ومزيدٌ من المكاسب على الأرض. وفي سبيل ذلك يُطوّع كل الوسائل والأدوات بين يديه، فيفتح الباب أمام كُل الغاضبين من أنحاء العالم مُروّجًا لحلم الإمارة للجميع. وقد بدا ذلك واضحًا عبر التغريدات التي نشرها الشاب المصري إسلام يكن الذي انضم لصفوف داعش، وغيره من أنصار التنظيم أو أعضائه النشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي؛ فهؤلاء كما يتحدثون بتشفٍّ غاضب عن قطع الرقاب، فإنهم كذلك بمزيج من السعادة والفخر عن الأموال والغنائم التي يحصدونها مُقابل “عملهم” داخل الدولة الإسلامية.

لم تكن القاعدة أو أي جماعة جهادية دولةً في يومٍ ما. لكن داعش يتعامل الآن باعتباره دولة ناشئة، تمتلك خطابًا ثوريًّا تعبويًّا، يسعى إلى حماية حدود مناطق نفوذه وإلى توسيعها قدر الإمكان في ظل حالة الفوضى التي تشهدها المناطق المجاورة له في كل من العراق وسوريا. إنّها بمثابة فرصة له لا بد أن يغتنمها قدر المستطاع قبل أن يأتي اليوم الذي قد تهدأ فيه الأمور وتكون أكثر استقرارًا.

حين أعدم التنظيم عددًا من الصحافيين وعمال الإغاثة الأجانب، أعلن بوضوح أنّ هذه الإعدامات تأتي ردًّا على الضربات الجوية لطائرات التحالف. عمومًا، لا توجد دولة تُحبّ انتهاك أراضيها؛ بهذا المنطق يتعامل التنظيم، الذي من جهة أُخرى برع في استخدام كل الوسائل الممكنة للدعاية والترويج لمشروعه الأممي، ويبدو أنه نجح في ذلك بدرجة كبيرة.

في مقطع الفيديو الشهير الذي يُظهر عملية الإعدام حرقًا للطيار الأردني معاذ الكساسبة، ينقل التنظيم عدة رسائل للمجتمع الدولي وللشعوب، منها رسالة مفادها أنّه لا حدود مُتوقعة للتنظيم، أو بعبارة أُخرى، يود التنظيم لو أنه يقول: “إننا راديكاليون لأقصى درجة مُتخيّلة”. ورسالة أُخرى أيضًا، تلك المتعلقة بإبراز الإمكانيات الفنية والإعلامية لديه، والتي بدت أيضًا منذ إصدارات صليل الصوارم.

قد يجد الذين فقدوا إيمانهم بالنظام العالمي، فيما يمثله تنظيم الدولة بديلًا أوفر حظًّا حتى من التعاونيات الاقتصادية أو الجماعات اليمينية المتطرفة، فداعش بالنسبة إليهم خارجة بالكلية عن سياق الحداثة التي ما تزال قابعة في مكان ما داخل تلك الجماعات اليمينية أو التعاونيات الاقتصادية. وهو أوفر حظًّا من حيث المظاهر والشكليات التي يبدو أن الآلة الإعلامية للتنظيم تقصد تسليط الضوء عليها، حيث في الدولة الإسلامية الأطفال يقتلون الكبارَ ذبحًا. وهُناك يُمكن للجميع اقتناء الأسلحة الآلية والنساء. الثنائية الشهيرة: الجنس والعنف، التي يستخدمها المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو للتعبير عن تناقض النظام العالمي بحظرهما رسميًّا رغم أن الواقع غارقٌ في ممارستهما.

الحقيقة، ورغم كل المحاولات الرامية إلى القضاء على داعش كتنظيم، لا يوجد –حتى الآن- ما يدلل على أن القضاء على داعش الدولة بات قريبًا. وفي المقابل، تبدو تحركات التنظيم عاقلة لنماذج سبقتها، بدأت كتهديد “خطير” على الجيران وربما النظام العالمي، ثُم ما لبث أن طبّع النظام معها بشكل أو بآخر. ولذا يتضح لنا الآن لماذا يبدو أن هدف التنظيم المرحلي هو التوسع قدر الإمكان، فبالإضافة إلى أن التوسع الجغرافي يُمدّه بمزيدٍ من الموارد الطبيعية والبشرية التي تصرف عليه أيضًا بالضرائب؛ فإن التوسع يعني رسم حدودٍ مُستقبلية واضحة إذا ما آلت الأمور للتعامل معه كدولة وما قد يستدعيه ذلك من حصاره عسكريًّا وربما اقتصاديًّا في مرحلة ما.

ولتوفير حيّز ديموغرافي وجيوسياسي له في المنطقة ركز التنظيم على العدو الداخلي قبل العدو الخارجي التقليدي المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين. وفي إطار ذلك عبّر أبو بكر البغدادي عن رؤية تنظيمه للجهاد بأنّه يعني القضاء على “الأنظمة الكافرة” في العالم العربي و”تطهير” المجتمع الإسلامي.

وفي المُقابل عقد التنظيم التحالفات مع جماعات مُسلحة تديرها قيادات في حزب البعث العراقي، بالإضافة إلى أنه قبِل بين صفوف قياداته الأولى عسكريين ومخابراتيين سابقين في حزب البعث (أبو علي الأنباري وأبو مسلم التركماني، وهما نائبا البغدادي، كانا ضابطين في جيش صدام حسين)، صحيح أنّ ذلك يحدث غالبًا بعد تبرّئهم من أفكار الحزب البعثي، إلّا أنه يظل أمرًا كاشفًا عن إستراتيجيّات التنظيم. حتى أنّ العمليات التي يتبناها التنظيم خارجيًّا، كما حدث في تركيا وأخيرًا في باريس، تأتي في إطار انتقامي أكثر منه هجوميًّا، وهو ما يُعلن عنه التنظيم بوضوح حين يربط بين تلك العمليات، وبين قصف طائرات التحالف لمعاقله. وكان ذلك جليًّا في عملية تفجير الطائرة الروسية التي قال فرع التنظيم في مصر (ولاية سيناء) إنّ العملية رد على التدخل الروسي في سوريا وما شمله من قصف لمواقع تابعة للتنظيم هناك.

وفي سياق مُتصل، يملك داعش قدرًا من التواصل لا بأس به مع بعض الأجهزة المخابراتية، وذلك لتسهيل عمليات تبادل الأسرى مُقابل الفدية، والتي تُعد من مصادر دخل التنظيم. بالإضافة لذلك، لدى التنظيم علاقات خارجية تُسهل له تحقيق عائد يومي يُقدر بنحو 3 ملايين دولار من بيع النفط في السوق السوداء الأردنية والتركية وأحيانًا لنظام بشّار الأسد. وقد تحدثت تقارير غربية عديدة عن تعامل سرّي ومحدود بين النظام التركي وبين داعش، لتوفير جزء من حاجة تركيا للنفط، كما اتهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تركيا بشرائها النفط من داعش، وهو الأمر الذي شددت تركيا على نفيه.

لا يُرجّح إذًا أن تنتهي الدولة الإسلامية قريبًا، فيما ما يزال أنصارها ومُؤيدوها بعشرات الآلاف كما تكشف شبكات التواصل الاجتماعي، وما يزال المُهاجرون إليها بالمئات من دولٍ عربية وغربية. فضلًا عن أن المجتمع الدولي لا يبدو مُتحمسًا بما يكفي لخوض حرب بريّة ضد التنظيم، وإن تحمّس لذلك وشرع في التنفيذ، فلا يُتوقع أن ينتهي الأمر بأنباء سارة على كل حال، ففي مناطق نفوذ داعش هُناك مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من المدنيين، بالإضافة إلى أنّ حربًا كهذه رغم أنها ستغذي سوق السلاح إلا أنّها ستضرب سوق النفط العالمية في مقتل.

وعلى مستوى أكبر ستكون تهديدًا حقيقيًّا على النظام العالمي، الذي قد يستوعب –مُؤقتًا على الأقل- دولةً مُتجاوزةً له، لكنّه ربما لن يحتمل خوض حرب مفتوحة مع النموذج -الأبرز والأقوى- البديل له، في ظل الانتكاسات العديدة التي مرّت بها شعوب العالم والمنطقة على وجه الخصوص.