داريا: لك المجد والخلود

يقال إن بولس الرسول رأى المسيح، وتحولت هويته ذاك التحول الجذري في منطقة قريبة من دمشق، سميت بسبب ما جرى لبولس الرسول فيها “دار الرؤيا”، ثم تحوّر الاسم بالاستعمال إلى داريا.

هي داريا التي مرّغت وجه نظام الإجرام، وأذلّت حلفاءه، كانت موقعًا لتحوّل غيّر مجرى تاريخ البشرية.

ارتباط الأرض بالسماء، الذي كان كفيلًا بهزّ الأرض حصل في دار الرؤيا.

ويقال إن خالد بن الوليد عندما قصد حمص لفتحها، قد ترك قسمًا من جنوده في داريا، لحماية مدينة دمشق ومحيطها.

فكان مكان اتصال الأرض بالسماء عبر رؤيا بولس الرسول، مكانًا لأعراب لا يمكن تفسير ما صنعوه في العالم في بضع سنين بسيوف قديمة (كما قال روجيه جارودي) إلا بافتراض اتصال بينهم وبين السماء.

مرة أخرى اتصلت الأرض بالسماء في دار الرؤيا، عبر أحفاد فرسان ابن الوليد، عندما حلّقت روح غياث مطر -أيقونة الثورة السورية- إلى السماء، وهو يرفع شعار الحرية، بكل رقي الثائر وعظمته.

واستمر الديرانيون بوصل الأرض بالسماء في معركة، لا يمكن تفسير صمودهم فيها في مواجهة جيش نظامي يحاصرهم من كل مكان، ويلقي بحممه فوقهم من السماء تؤازره ميليشيات حاقدة، إلا بافتراض روح سارية من بولس الرسول، إلى جنود الفتح المسلمين، إلى غياث مطر وصحبه، روح تعيد تشييد عمود النور بين الأرض والسماء، وتُرجع بصر المجرمين الذين يلقون بحمم الحقد خاسئًا وهو حسير.

لم يكن الحقد على أحفاد جنود الفتح الإسلامي، السبب الوحيد في إصرار النظام وحلفائه على جعل داريا قاعًا صفصفًا باستخدام كلّ أنواع الأسلحة، وإنما يضاف إلى هذا معرفتهم أن داريا عبر تاريخها هي مفتاح التغيير، وأن سقوطه في دمشق سيكون بهزيمته في داريا.

ربما كان الاستثناء الذي مثّلته داريا والديرانيون مزعجًا لبعض الغربيين المعنيّين بالشأن السوري ممن ألقوا السماء وعوالمها وراء ظهورهم، واستغرقوا في الأرض، من الذين عافوا الروح وتجلياتها، واستنزفت عقولهم المادة؛ فهذا الاستثناء النورانيّ كفيل بهدم المنظومة التي قامت حضارتهم الحديثة على أساسها، ولهذا تراهم متواطئين على هزيمتها، ضالعين في جريمة تهجير أهلها، لكي تستحيل إلى شيء آخر غير “دار الرؤيا”، إلى أنموذج منسجم مع تصوراتهم وفهمهم للوجود.

واهم نظام الإجرام، ومن تواطأ معه إذا ظنّ أن فرض شروطه على أبطال داريا، هو نهاية لهذه الملحمة العظيمة؛ فقد رأى العالم كله مدينة صغيرة تقاتل عدة سنوات جيوشًا نظامية، وشهد نظامًا سياسيًا يفرض على مواطنيه تهجيرهم من أرض آبائهم وأجدادهم التي زرعوا أرضها بالعرق والدم، فليس نصرًا ما حصل عليه بعد كل هذا، وليس هزيمة للأبطال أن يقبلوا شروطًا تصون دماء من تبقّى من أهلهم.

وإن ما جرى على مرأى العالم كله من همجية في الحرب، وسلوك عصابة، لا سلوك دولة في التهجير، ليس إلا استمرارًا لحالة الاستثناء الذي مثلته داريا العظيمة، وأبناؤها الأبطال.

بين قائل بأن إخراج أهل داريا منها، دافعه إهانة أبطالها، وقائل إن ثمة خطة لتوطين شيعة من حلفاء النظام فيها اختلفت التفسيرات.

فإذا كان التفسير الأول صحيحًا، فلا شك أن نظام الحقد قد أهان نفسه؛ لأنه جعل العالم كله يدرك أنه ليس إلا حفنة من البلطجية، قطاع الطرق، وليس نظامًا سياسيًا، وإذا كان التفسير الثاني راجحًا، فإن أرضًا متجذرة في التاريخ، بهذا العمق الحضاري، وبهذه الاستثنائية النورانية لن تكون موطنًا للغرباء، وسيطرد نورها ظلامهم، وطهرها عفنهم، طال الزمن أم قصر.

رئيس التحرير