أخبار الآن | الرقة – سوريا – (أحمد ابراهيم)

توقفت الحافلة أمام بيتنا وهي تطلق أصوات مزمارها المبحوح عند شروق الشمس في قريتنا الصغيرة البعيدة في ريف الرقة، والتي لا تمر بها سوى حافلة “أبو صطيف” لتجمع الركاب والحليب واللبن والبيض، بل وبعض الأغنام التي يرفعها مع معاونه “حمود” على ظهر الحافلة.

كان زوجي يستعجلني وأنا أُلبس طفلي الصغير ثيابه وهو يتفقد لحيته وهندامه الذي يجب أن يطابق المواصفات القياسية لـداعش في الرقة حيث سنذهب لمراجعة طبيبة الأطفال.

درب الخوف

عند باب الحافلة تفقد “أبو صطيف وحمود” ثيابي وثياب زوجي، وبادر مبررا ذلك: “يا أختي والله من أجل مصلحتك كي لا تسمعين كلمة غير مناسبة أو تتعرضين للجلد”.

تجولت الحافلة بين بيوت القرية جامعة الركاب وأواني اللبن رامية فوارغ الأمس مكانها. كان الغبار ينفذ من شقوق كثيرة من تحت الكراسي والنوافذ، وهدير المحرك يصمّ الآذان.

“يا شباب، من بقي لديه علبة سجائر أو حتى سيجارة واحدة فليرمها، اقتربنا من الوصول إلى حاجز داعش. ومن كان يدخن فليضع في فمه حبة هال  أو يستخدم “المسواك”. هكذا نادى حمود المعاون وهو وسط الحافلة.

نزلنا في “كراج المزارع” وسط المدينة، ومن هناك استقلينا سيارة الأجرة إلى عيادة الطبيبة في شارع “تل أبيض”.

كانت العيادة لا تزال مغلقة وكانت قد سبقتنا عائلتان افترشتا الدرج على مدخل العيادة. جلسنا معهما ربما نصف ساعة عندما جاءت الممرضة، التي أدخلتنا نساء وأطفال ومنعت الرجال من الدخول، وأشارت إلى ورقة معلقة على الباب تمنع دخول الرجال حسب تعليمات داعش.

سجلت لنا دور وكان موعدي الساعه 12، خرجت أبلغ زوجي عن الموعد فاصطحبني لتناول الطعام، وجلسنا في “حديقة الرشيد” المقابلة لمطعم الروضة الذي يقدم “الفلافل” الأشهر في الرقة وذهب هو ليحضر “الساندويش”.

اتهامات جاهزة للنساء

غيّرت الثياب الداخلية لرضيعي الذي بدأ بالبكاء، فاخترت ركنا قصيا بين الشجيرات في زاوية الحديقة ووجهي إلى الحائط، وما إن بدأت بإرضاعه حتى أحاطت بي ثلاث نساء وكأن الأرض انشقت عنهن، وبادرنني بشتائم غاية في القذارة ثم: “يا كافرة”.

تفاجأت لدرجة أنني تلعثمت بكلامي، قلت: “لماذا!” ثيابي نظامية وعليها “الدرع” ولا يظهر مني أي شيء، وهذا الركن مغطى ولا أحد يستطيع رؤيتي؛ وطفلي كله تحت الدرع”. أجابوني مع استمرار الشتائم: “ستعرفين هناك أنك توحين للرجال بالافتتان”.

لم يكن رجال هنا، وحتى لو وجدوا فلا يمكن لأحد رؤيتي في زاويتي هذه: “هيا قومي”.

“أركبنني بسيارة مغلقة مكتوب عليها “الحسبة” يقودها ملثم. حاولت إخبارها بأن زوجي سيعود بعد قليل لكنها لم تسمع كلامي وهي تحشرني بالسيارة وتصرخ “أسكتي هذا المسخ الصغير”.

بقي طفلي جائعا لأنني لم أستطع إرضاعه. ضممته إلى صدري وأنا أتلتفت يمنة ويسرة عساني أرى زوجي ولكن عبثا.

وصلنا إلى مكان كله نساء مسلّحات، بعضهن تحمل أوراقا وبعضهن تتحدث بأجهزة لاسلكية. كانت أصوات التعذيب تصل من آخر الممر حيث نتجه. وكلما علا صوت التعذيب ازدادت قوة يدي في ضم ابني.

في آخر الممر أدخلوني غرفة التعذيب. كان المشهد أكثر من صادم، نساء معلقات عاريات والدم يسيل من أكثر من مكان في أجسادهن، كانت هنالك دواليب سيارات متنوعة القياس وعُصي مختلفة الأطوال وسياط ودماء كثيرة جافة على الجدران؛ وفي الزاوية البعيدة كومة كبيرة من الكتب موجودة بغير ترتيب. سمعت كلاما لم أسمع به في حياتي؛ تخجل من سماعه أية امرأة.

التعذيب بالعضاضة

لم تنتبه “أم حمزة” إليّ عندما سمعتهن ينادينها بأمري، وكانت وقتها تعذب امرأة خمسينة بعصا خشبية في أماكن حساسة.

وسط صراخ ابني تركت أم حمزة المرأة والتفت إليّ تشتمني وتأمرني بإسكات ابني.

تابعت أم حمزة تعذيب المرأة الخمسينية البدينة، ولم يزد صراخ المرأة وعويلها وألمها أم حمزة إلا مزيدا من التعذيب والضرب.

فُتح الباب وجاءت إحداهن وأخذتني، وكان زوجي هناك مطرق الرأس على الأرض. خيروه بين جلده أو جلدي 30 جلدة لمخالفتي الاحتشام. قال: “اجلدوني أنا فهي مريضه وطفلها مريض”. ولكني آثرت بإصرار على أن أُجلد أنا.

أعطيته الطفل وجرتني أم حمزة إلى غرفة التعذيب وهناك خيرتني بين “العضاضة” والجلد، ولأنني رأيت الجلد اخترت العضاضة التي لم أسمع بها سابقا ولكنني اعتقدت أنها ربما تكون أهون عليّ من الجلد.

طلبت مني أم حمزة خلع ثيابي وسط سباب ومصطلحات لا أعرف من أين تأتي بها. خلعت ملابسي على استحياء وسط انشغالها بامرأة أخرى معلقة بالسقف ورأسها يتدلى على صدرها كالميتة.

بادرتني بالقول: “بأي صدر كنت ترضعين مرتدّك هذا؟!”. أشرت إلى الجانب الأيسر. استدارت إلى الحائط المقابل وأحضرت آلة حديدية تشبه الكماشة لها سنّين في فكيها العُلوي والسفلي وأطبقت بهما على الجانب الأيسر فطفر الحليب والدم وصراخي الذي أعتقد أنه وصل إلى قريتي البعيدة.

لم يتوقف النزف لدرجة أن أم حمزة أصابها الإرباك. ألبسوني ثيابي ونقلوني إلى المشفى بأربعة جروح غائرة في صدري المرضع الذي ضمر الآن نتيجة قطع أحد الأوردة التي تغذيه، كما قال الأطباء.

بعد تلك الحادثة غادرت المرأة وزوجها وأطفالها إلى تركيا هاربة من جحيم “داعش” الذي لا يمكن لعقل بشري أن يتصوره، على حد قولها. وهي تعيش اليوم في مدينة أورفه التركية، التي تضم اللاجئين السوريين من المنطقة الشرقية، وتعمل هي وزوجها في جني القطن.