كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

افتُتح عام سوريا الجديد، 2019، بجولة جديدة من المواجهات العسكرية بين «جبهة النصرة»، أو «هيئة تحرير الشام» كما صارت تعرّف عن ذاتها في التسمية الراهنة، من جانب؛ وخمسة، على الأقلّ، من فصائل ما باتت تُعرف باسم «الجبهة الوطنية للتحرير». وليست مصادفة محضة أنّ العام المنصرم، 2018، افتُتح أيضاً بجولة أخرى من المواجهات على بطاح محافظة إدلب؛ دارت، يومذاك، بين «الهيئة» وتحالف روسيا وإيران والنظام السوري، وكان الهدف منها إبعاد رجال أبي محمد الجولاني نحو أطراف مدينة إدلب، وإخلاء القرى التي كانت «الهيئة» تحتلها. وكما أنّ تلك الجولة لم تحسم الكثير على الأرض لصالح التحالف الثلاثي، فإنّ الجولة الجديدة مرشحة لإراقة المزيد من دماء الجهاديين دون أن تسفر عن حسم ميداني ملموس أيضاً.
ومنذ أن: 1) تحوّلت المحافظة إلى «إمارة» جهادية، أُقصيت إليها غالبية المجموعات المسلحة الإسلامية التي هُزمت، أو استسلمت، هنا وهناك في جبهات أخرى؛ و2) ظهر الجولاني في ريف اللاذقية الشمالي وأعلن ولادة خمسة «جيوش» دفعة واحدة («جيش الملاحم، جيش الساحل، جيش البادية، سرايا الساحل، وجند الشريعة)؛ انقلبت المحافظة إلى ميدان منتظَر لاندلاع أمّ المعارك: بين فصائل الجهاديين أنفسهم (حتى إذا تقنع بعضهم بمسمى «الجيش الحرّ»)، في صفّ أوّل؛ والقوى الأخرى غير الجهادية في الساحة، من الفصائل الملحقة بالجيش التركي، إلى الميليشيات المذهبية التابعة لطهران، مروراً بتلك الطائفية الحليفة للنظام أو الموالية لموسكو، في صفّ ثانٍ. وأمّا العنوان الأبرز خلف هذا التجاذب الشديد، فهو ذلك الكابوس الذي يرغب الجميع في تفاديه، أو تأجيله، أو تخفيف كوارثه السياسية والعسكرية والديموغرافية: معركة الساحل الكبرى، حين لن يجد عشرات الآلاف من مقاتلي «الهيئة» مخرجاً آخر، أو أفضل، سوى الاستدارة نحو عمق الساحل، وخوض معارك ميدانية مصغّرة على مستوى القرية أو البلدة، واستخدام سلاح المدفعية وصواريخ الـ»غراد»، واعتماد تكتيك التوغل المحدود ذي الاستهداف الثقيل.
وكان الشهر الأوّل من العام المنصرم قد شهد مهزلة الشطر السياسي من مشروع التدخل الروسي في سوريا، حين ضرب الاستيهام دماغ سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز الاستخبارات الروسية والمستشار الأوّل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأقنع سيد الكرملين بأنّ مؤتمراً لا يدوم سوى ساعات قليلة، وجلسة واحدة، يُدعى إليه 1600 مندوب سوري؛ يمكن أن تشكّل فارقاً دراماتيكياً في معمار البناء السياسي لما بعد انتصارات موسكو العسكرية في سوريا. وتلك التفاصيل المزرية التي اكتنفت مؤتمر سوتشي، ولم تكن أكثرها إثارة للضحك وللاشمئزاز مشاهد التدافع على منصات الطعام، أشارت بجلاء أقصى إلى أنّ الشراكة الثلاثية، الروسية ــ الإيرانية ــ التركية، الضامنة لمنظومة أستانة (حول «الإصلاح الدستوري» و«الانتخابات الديمقراطية») ليست منعدمة التشارك، قياساً على تأثيرات كلّ دولة في مضمارها، فحسب؛ بل هي حقل التفخيخ الأوّل لكلّ مشروع تسوية أممي يمكن أن يتجاوز الثلاثي إلى ضامنين أوسع، وأغنى مليارات في الواقع، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

التفاصيل المزرية التي اكتنفت مؤتمر سوتشي، أشارت بجلاء أقصى إلى أنّ الشراكة الثلاثية، الروسية ــ الإيرانية ــ التركية، الضامنة لمنظومة أستانة ليست منعدمة التشارك، فحسب؛ بل هي حقل التفخيخ الأوّل لكلّ مشروع تسوية أممي يمكن أن يتجاوز الثلاثي إلى ضامنين أوسع

ذلك لم يمنع ناريشكين من مراضاة رئيسه عن طريق االبرهنة على أنّ قاعدة الروليت الروسية قد طُبّقت عبر ذلك المؤتمر المهزلة، من خلال نجاح جولات أستانة في تفريغ جولات جنيف/ فيينا من غالبية عناصرها، خاصة تلك التطبيقية (الحكم الانتقالي، مصير الأسد، إشراك المعارضة…). ليس لأنّ طاولات التفاوض تعددت وتبعثرت، بين موسكو وأستانة وسوتشي وأنقرة، فقط؛ بل أساساً لأنّ المرجعيات تبعثرت معها وتعددت واختلطت، فباتت قرارات الأمم المتحدة (حتى تلك التي سهر على صياغتها وزيرا الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف) أثراً بعد عين، أو تكاد. وخلال 11 شهراً انقضت من العام 2018، شهدت تلك الشراكة تقلبات عديدة، فتجمدت تارة، أو اتخذت صفة بروتوكولية حصرية تارة أخرى، حتى انتهت إلى تفاهمات ثنائية روسية ــ تركية، أسفرت حتى اليوم عن جولات فوز متلاحقة لمشاريع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ سواء في إطار تقليص نفوذ الكرد والـPKK، أو على صعيد توسيع أوراق اللعب التركية على الأرض السورية، ورفع أرصدة أنقرة في سباق الاقتسام والتقاسم. وإذا نفّذ الرئيس الأمريكي وعده فسحب القوات من مناطق انتشار «قوات سوريا الديمقراطية»، وعموم بؤر النفوذ الكردي، فإنّ منظومة أستانة ستلتحق بمنظومات جنيف وفيينا، انحناءً أمام قواعد الروليت الروسية إياها!
وفي ربيع العام المنصرم كانت عودة النظام إلى الغوطة الشرقية بمثابة تذكرة مأساوية بالعوائق التأسيسية، الخَلْقية على وجه التحديد، التي لازمت التيارات الجهادية منذ ابتداء صعودها؛ وربما باقتران مباشر مع استجابة رأس النظام السوري، بشار الأسد، إلى نصيحة الاستخبارات الروسية حول إطلاق سراح 1500 من معتقلي التيارات الإسلامية المختلفة. وكان طبيعياً أن يلجأ زهران علوش إلى تأسيس «جيش الإسلام»، ويحذو حذوه حسان عبود فيطلق «أحرار الشام»، ويقتدي بهما أحمد عيسى الشيخ في إنشاء «صقور الشام» ثمّ تولية الجولاني على رأس «جبهة النصرة»؛ فتكون العاقبة الأولى هي استبدال التظاهرة السلمية بالبندقية (المأجورة لأنظمة وأجهزة خارجية)، وإزاحة شعارات التغيير ومطالب الحرية والكرامة والعدالة لصالح الأسلمة والشريعة والجهاد. العاقبة التالية كانت فرض أنماط الهيمنة السياسية والاجتماعية والأمنية الجهادية على مجتمعات الغوطة، ثمّ الانخراط في صراعات داخلية دامية، وانهيارات عسكرية متلاحقة؛ حتى إذا كانت الهزيمة الختامية نتاج تدخل عسكري روسي وحشي غير مسبوق، ساندته مجموعات «حزب الله» والميليشيات المذهبية، ولم تغب عنه الأدوار المزدوجة التي لعبتها «داعش».
وفي نيسان (أبريل) نفّذت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربة جوية ضدّ منشآت الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، كما قالت بيانات الدول الثلاث؛ وكانت، في الشكل كما في المضمون، «خبطة» علاقات عامة أُريد منها حفظ ماء وجه زعماء الدول الثلاث، إزاء محظور واحد هو استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ المدنيين. في المقابل، حظي نظام الأسد، من جانب تلك القوى وسواها، بأشكال شتى من الصمت، أو الإدانة اللفظية، أو التواطؤ المباشر، أو التذرّع بأولوية محاربة الإرهاب. وخلال ثماني سنوات من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، وهي كذلك ثماني سنوات من مأساة مفتوحة على سفك الدماء وممارسة أنساق التوحش البربرية كافة؛ كانت قوى من كلّ حدب وصوب ــ بينها إيران وميليشياتها المذهبية، «داعش» والجهاديون، موسكو وواشنطن وأنقرة… ــ تتولى الإجهاز على الشعب السوري، فتنتهك أرضه وسماءه، وتحوّل سوريا إلى محميات واحتلالات. ولم يكن ثمة مفارقة في أن القاذفات والصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت عشرات المواقع داخل سوريا، هي السابقة على صواريخ أمريكية وفرنسية وبريطانية لاحقة. لافت، إلى هذا، أنّ ذلك العقاب المسرحي أفرز توازياً كاريكاتورياً بين مؤيدي الضربة (لأنها تؤذي النظام!)، ورافضيها (لأنها تؤذي السلام!)؛ وكأنّ الضارب لا يتساوى مع المضروب في الشراكة عن صناعة المأساة الأمّ، وإدامتها.
ولا يصحّ اختتام هذه الحصيلة السورية دون استذكار التفاهم اللافت، الصامت ولكن رفيع السوية، بين بوتين ورئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بصدد إسقاط الطائرة الروسية «إيل ـ 20» في سماء اللاذقية. لقد تركا التراشق اللفظي لرجال الصفّ الثاني في موسكو وتل أبيب، وتفرغا إلى ما يتوجب أن يجمعهما ويذهب أبعد بكثير من مجرد واقعة واحدة تكدست فيها «سلسلة حوادث مأساوية وقعت بالصدفة»، حسب تعبير بوتين. الدليل أنّ موسكو نشرت منظومة الصواريخ المتقدمة، وجيش الاحتلال واصل عمليات القصف، فلا ضرر هنا ولا ضرار هناك!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس