التهديد بالتجويع الذي وجّهه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أكراد العراق بعد الاستفتاء على الاستقلال، ومعارضته الشديدة لاحتمال إعلان الدولة الكردية المستقلة، يعكسان الارتباك والازدواجية اللذين تتعامل بهما تركيا مع المسألة، خصوصاً أن إقليم كردستان العراق شكل خلال العقد الماضي ما يشبه «جنة» تركية، على الصعيد الاقتصادي في الأقل.
بالطبع، ليس مفهوماً كيف أن أردوغان نفسه الذي انبرى لإسرائيل في حصارها لقطاع غزة و «تجويعه»، وقاطعها عندما اعترضت سفينة أرسلها لكسر الحصار، يهدّد باستخدام الأسلوب نفسه مع الأكراد الذين استغل إلى أقصى الحدود علاقته بهم منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003. وكأن قضية غزة كانت مجرد عمل دعائي تجاوز حدوده المرسومة، فخرجت نتائجه عن السيطرة، وكان القصد منه فقط التأكيد على «زعامة» تركيا للعالم الإسلامي و «انفرادها» في الدفاع عن قضاياه.
وعلى سبيل التذكير، فإن تركيا تدعم منذ نحو 15 عاماً الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، وتتعاون مع سلطات الإقليم في مواجهة «حزب العمال الكردستاني» الذي يخوض مواجهات مع جيشها داخل أراضيها، وتتبادل معها المعلومات الأمنية التي مكّنتها من احتواء نفوذه والحد من عملياته العسكرية. حتى أنها دعمت في وقت من الأوقات «الاستقلال» الكردي عندما أرسلت وزير خارجيتها إلى أربيل في 2013 من دون المرور ببغداد، وافتعلت أزمة مع حكومة نوري المالكي آنذاك.
كذلك نسجت أنقرة علاقات اقتصادية متقدمة مع الإقليم، وسمحت له بأن يصدر عبر أراضيها معظم إنتاجه النفطي البالغ حالياً 600 ألف برميل يومياً، والمرشح للوصول إلى مليون برميل، وأمدّته بحاجاته من الأغذية وسائر المواد الاستهلاكية، فتحوّلت من شريك وثيق إلى شريك ضروري.
أي أن أنقرة كانت المستفيدة الأولى من القطيعة بين أربيل وبغداد، ومن تنصّل الأخيرة من التزاماتها تجاه الأكراد، وكذلك من العلاقات المتوترة بين الإقليم وإيران. وساهمت علاقتها بالأكراد في كسر احتكار طهران للنفوذ السياسي والعسكري في العراق. لكن عندما حاول الأكراد العراقيون تقرير مصيرهم انقلبت عليهم، وكأن العلاقات بين طرفين يفترض أن تذهب في اتجاه دون الآخر.
ولعل ما أزعج أنقرة التوقيت الذي جرى فيه الاستفتاء. ذلك أنه تزامن مع سعي أكراد سورية إلى تثبيت نوع من الحكم الذاتي الموسّع. فالوضع في شمال سورية يُقلق الأتراك أكثر، لأن «حزب العمال» أوسع انتشاراً ونفوذاً فيه من شمال العراق. غير أن العلاقة الجيدة مع أكراد العراق يمكنها بالتأكيد مساعدة تركيا في شكل غير مباشر في «ضبط» أكراد سورية.
وقد تكون تركيا استاءت أيضاً من سعي الأكراد في الفترة الأخيرة إلى محاولة الخروج عن «الاحتكار» التركي وتنويع علاقاتهم الاقتصادية، خصوصاً مع موسكو، بعدما أقرضت شركة النفط الروسية العملاقة «روسنفت» حكومة الإقليم ما يزيد على بليون دولار بضمان مبيعات النفط، والتزمت توفير أربعة بلايين أخرى لمشاريع مختلفة فيه، فيما اقترضت كردستان نحو بليوني دولار من مؤسسات تجارية دولية متنوعة، علماً أن هذه المساعي لا تغيّر كثيراً في واقع اعتماد كردستان الكبير على تركيا.
هل يكون الموقف التركي مجرد مناورة هدفها تثبيت مصالحها داخل كردستان في مرحلة «الاستقلال»، أو منح أنقرة قدرة أفضل على التفاوض مع الأطراف الآخرين على الخريطة الجديدة للنفوذ الإقليمي، لا سيما الأميركيين؟
الأيام المقبلة ستحكم على المدى الذي سيصل إليه الأتراك في تصدّيهم غير المشروع لحق الأكراد في تقرير مصيرهم، لكن الطريق تبقى مفتوحة أمام تراجعهم، فشعار «الواقعية» الذي يطغى على ديبلوماسية أنقرة، خصوصاً في سورية، جاهز دوماً للاستخدام متى دعت الحاجة.