كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

بين مفارقات ما ستشهده معضلة استقبال المواطنين الغربيين، الذين تطوعوا للجهاد مع “داعش” وهم حملة جنسيات أوروبية وأسترالية وكندية وأمريكية، أن يجد المشرّع الألماني ضرورة، بل حاجة وفائدة، في تصنيف “خلافة” البغدادي تحت مسمّى الدولة، وليس التنظيم الإرهابي فقط. ذلك لأنّ القانون الأساسي في ألمانيا، وهو بمثابة دستور البلاد، يحظر إسقاط الجنسية الألمانية تفادياً لتكرار التجربة النازية المريرة في هذا الصدد. لكنه يتيح، طبقاً للمادتين 25 و28، إمكانية فقدان الجنسية أو التخلي الطوعي عنها ضمن حالات محددة، بينها أن يخدم الألماني المتجنس في جيش دولة ثانية. وهكذا، إذا اعتبر المشرّع الألماني أنّ “داعش” هي أوّلاً “الدولة الإسلامية”، فالحال عندئذ يمكن أن تبيح فقدان الجنسية للدواعش حملة الجنسية المزدوجة.

مفارقة أخرى، لها صفة السابقة القانونية، مفادها أنّ قرابة 7366 من هؤلاء الجهاديين عادوا بالفعل، خلال السنة الماضية، إلى البلدان الغربية التي يحملون جوازات سفرها؛ وبعضهم خضع للمحاكمة، وحُكم عليه بالسجن، في أستراليا وكندا مثلاً، وبالتالي بات القياس القانوني متوفراً أمام كلّ راغب في طعن أو استئناف أمام القضاء. هنالك، إلى هذا، حكم قضائي لن يتردد محامو الدفاع في اقتباسه والسعي إلى الاحتذاء به، خاصة وأنه من طراز مختلف يشمل حملة الجنسية الأصلية، الوحيدة وليس المكتسبة؛ كما في مثال المواطن النمساوي أوليفر ن.، الذي عاد من تلقاء نفسه وحكم عليه القضاء بالسجن سنتين ونصف السنة.

الراغبون، من المشرّعين الغربيين، في إعلاء شأن القانون أوّلاً، وضمن حقوق الإنسان بصفة عامة، ومراعاة الحالات الإنسانية التي تخصّ آلاف النساء وأطفالهنّ على وجه التحديد، يقترحون ثلاث ركائز كبرى: 1) الإحالة إلى القضاء وتطبيق الأحكام التي تنصّ عليها القوانين المرعية، لكلّ حالة على حدة؛ و2) إحكام الرقابة على العائدين، ممّن صدرت فيهم أحكام أو ينتظرون؛ و3) تطوير ما بات يعرف باسم “العلاج من التطرف”، وفق طرائق أكثر تعمقاً في الجذور النفسية والتربوية والثقافية، التي دفعت هذا أو تلك إلى الالتحاق بالمنظمات الجهادية المتشددة في العراق وسوريا وأمكنة أخرى.

هيهات، في المقابل، أن يكون هذا رأي السلطات الأمنية في الغالبية الساحقة من بلدان الغرب؛ ليس اتكاءً على العقلية البوليسية التي تفضّل طرائق القمع والمنع والحظر والقسر، على العلاج العميق لباطن الظاهرة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الكثير من أجهزة السلطات السياسية تفضّل هذه الطرائق أيضاً لأنها تتماشى مع، وكذلك تدغدغ، رغائب شرائح لا بأس بها من رأي عامّ، شعبي أو حزبي، صار يعتمد رؤى عنصرية وانعزالية ويمينية متطرفة تُقيم الكثير من عقائدها على الربط بين الجهاد والهجرة.

وثمة، في هذا الربط كلام حقّ يُراد من ورائه الباطل؛ إذْ من الصحيح أنّ سياسات الهجرة، التي اعتمدتها وتعتمدها غالبية الدول الغربية، أخفقت في تحصين أبناء المهاجرين ضدّ نزوعات التطرف والتشدد والاغتراب وضعف الاندماج واعتناق العنف. وبهذا المعنى فإنّ الهجرة المضادة نحو التنظيمات الجهادية مشكلة غربية أيضاً، وليست شرق ـ أوسطية حصرياً. وليس المسلم وحده، بصرف النظر عن الجيل المهاجر الذي يتحدر منه، هو الذي تصيبه هستيريا الهجرة للقتال من أجل إحياء “الخلافة” في العراق أو الشام؛ إذْ توفّر متطوعون غربيون من أبناء الديانة المسيحية، وهؤلاء عيّنة هائلة الأهمية وبالغة الدلالة في دراسة جذور الظاهرة وتشخيص دوافعها.

فالثابت، الذي لا يجوز غضّ النظر عنه، هو أنّ أبناء الغرب الذين تقاطروا للقتال في أصقاع بعيدة عن بلدان إقامتهم، وجنسياتهم، لم يتطرفوا أو يتشددوا في الشرق الأوسط أو في بلد مسلم، بل في أماكن مثل لندن وباريس وبرلين ونيويورك وملبورن وتورنتو. ومعضلة هذه العواصم في أمر استقبال هؤلاء، اليوم، ينبغي أن تتجاوز السطح لكي تحفر في الباطن، بحثاً عن الجذور الأولى والأصلية.