ياسين الحاج صالح

سينقضي وقت طويل قبل أن يكتب تاريخ الثورة السورية المحطمة، لكن الوقت ليس مبكراً على قول شيء عن جوانب منها، يحتمل أن يستند إليها في رسم صورة تاريخية أغنى لهذه الاندفاعة المشرفة، التي تشرفت بتحطيم عالمي. الجانب الذي تضيئه هذه العجالة هو دور النشطاء الديموقراطيين، السياسيين والحقوقيين، خلال شهور التحرير القليلة بين سلطة الأسديين وسلطة السلفيين، وفي منطقتين حصراً، تسنى لكاتب هذه السطور قدر من اطلاع مباشر على أحوالهما: الغوطة الشرقية والرقة.
كان يسّر من هذا الدور شيئان. أولهما، أنه لم تكن ثمة حواجز من أي نوع في عامي الثورة الأولين بين الثائرين السلميين والمقاتلين ممن كانوا يندرجون وقتها ضمن إطار «الجيش الحر». كان معظم المقاتلين من شرائح محلية أفقر، فيما انحدر الناشطون من الشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى المتعلمة. كان تحرك الناشطين أوسع نطاقاً، بعضهم محليون، لكن منهم من كانوا قادمين من مناطق أخرى قريبة. في 2012، كانت الأحياء الثائرة من حمص مقصد ناشطين من العاصمة، ومن مناطق أخرى من سورية، فضلاً عن الناشطين الحماصنة المتنوّعين. هذا أحد أوجه استحقاق المدينة لقب «عاصمة الثورة». الشيء الثاني، أنه كانت تجمع الثائرين المدنيين والمسلحين العملية الثورية ذاتها، وتفرعاً عن الجذر ذاته، جذر الثورة على الدولة الأسدية وإرادة تغييرها، إلى درجة أن ثائرين مدنيين معروفين حملوا السلاح لبعض الوقت، والأكثر شعبية منهم، مثل عبدالباسط الساروت، ظل مقاتلاً حتى أجلي مقاتلو حمص عن المدينة في أيلول (سبتمبر) 2014.
نحتاج، نحن السوريين، أكثر من غيرنا إلى تذكّر أن التظاهرات السلمية استمرت حتى حزيران (يونيو) 2012، شهوراً طويلة بعد تسلّح الثورة، وأنه في هذا الشهر الأخير سجلت بؤر التظاهر رقماً قياسياً يتجاوز 700 بؤرة في البلد. يبدو هذا ماضياً سحيقاً اليوم، لكن لذلك بالذات ينبغي أن نستحضره ونبقيه معاصراً لنا.
بعد خروج مناطق من سيطرة النظام في شمال سورية أولاً، ثم في الغوطة الشرقية، ثم الرقة وغيرها، كانت هذه المناطق مقصد ناشطين متنوعين، يساعدون في ما يستطيعون: يوصلون مساعدات مادية وإغاثية، ويشبِّكون مع نشطاء محليين، يقدمون العون في مجال الدعم النفسي للأطفال أو البالغين، ويعملون على تطوير مشاريع للطاقة (الكهرباء العامة مقطوعة عن الغوطة الشرقية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2012)، ويتعلمون. شهدت بنفسي تردد ناشطات وناشطين، إلى الغوطة الشرقية في ربيع وصيف 2013، يتطوعون للخدمة العامة، متجشمين الأخطار ومن دون توقع أي مكسب شخصي. ومن الناشطين السياسيين من عملوا باسم تنظيمهم في المنطقة، وبنوا صلات وروابط متنوعة، بما فيها محاولة ضبط المقاومة المسلحة. كانت الحركة لا تزال ممكنة بين دمشق والغوطة الشرقية وقتها، وإن برقابة تتشدد أكثر وأكثر من جهة الدولة الأسدية، وكانت هناك مسالك تهريب ناشطة يسلكها البعض، وكنت منهم. في مجملها مثلت هذه التحركات استمراراً للبعد السلمي للثورة وقت أخذت النشاطات الاحتجاجية تتوقف بدءاً من تموز (يوليو) 2012، مع توسع الأسديين في استخدام سلاح الطيران وقصف التجمعات، ومنها قصف طوابير الخبز المتكرر وقتها.
لكن هذه الروابط المدنية العسكرية أخذت تتآكل تدريجياً بفعل عاملين. أولهما، إطباق الحصار التام على الغوطة في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، ومنع أي حركة بينها وبين دمشق، في إطار خطة تجويع كانت في الغوطة الشرقية أقل نجاحاً في التركيع بسبب مواردها الزراعية والحيوانية من جهة، وفساد قوات النظام وعدم قدرتها على تطبيق أي سياسة لوقت طويل من جهة ثانية.
ومن أوجه هذا الحصار، تمكّن النظام من السيطرة على أنفاق كانت بُذلت جهود كبيرة في حفرها لوصل الغوطة بالعاصمة وتأمين دخول مواد طبية وغذائية، وتسهيل الحركة البشرية. وتمثل العامل الثاني في تضييق متعدّد الأشكال مارسته تشكيلات عسكرية، أخذ بعضها يحصل على تمويل مستقل من جهات إقليمية ودولية «داعمة»، فتستقل أكثر وأكثر عن البيئات المحلية، قبل أن تشرع بفرض سلطتها عليها. وأبرز هذه التشكيلات في الغوطة الشرقية، تشكيل «لواء الإسلام» الذي ارتقى بسرعة من «سرية الإسلام» عام 2012، ليعود إلى ترقية نفسه إلى «جيش الإسلام» في أيلول (سبتمبر) 2013، بعد شهر واحد من المجزرة الكيماوية.
على هذا النحو، شكل حصار الثائرين والناشطين من جانب هذه التشكيلات استمراراً لحصار المنطقة ككل من النظام. ومعلوم أنه بعد نحو شهرين من إطباق النظام الحصار على الغوطة، اختطف «جيش الإسلام» سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، والأربعة ناشطون غير محليين، كانوا يقومون بنشاطات متنوعة في دوما، اجتماعية وتوثيقية وإغاثية. كانت الواقعة أكبر ضربة مفردة توجّه ضد ثائرين مدنيين حتى ذلك الحين، ولا تزال نقطة انعطاف كبرى، واستئنافاً لجهود الأسديين في ضرب الثائرين السياسيين والمدنيين السلميين وفك الارتباط بينهم وبين الثورة المسلحة. والحبل الذي أجهد النظام نفسه لتوهينه بين المناطق، وبين أشكال العمل الثوري المختلفة، عملت هذه السلطة الجديدة على قطعه تماماً.
في الوقت نفسه تقريباً، حصل شيء مشابه في حلب، واضطرت ناشطات وناشطون معروفون إلى اللجوء إلى تركيا، وكان المعتدي هنا هو بخاصة «داعش»، لكنه لم يكن وحده.
في الرقة، جرت العملية نفسها. وقت كنت هناك في صيف 2013، كانت تتوافد ناشطات وناشطون من مناطق متعددة من البلد، ومنهم من فكروا في الإقامة فيها كمنطقة واسعة محررة، غير محافظة اجتماعياً، ويتعذر أن يحاصرها النظام الذي كانت بقيت له بعض البؤر حولها في ذلك الحين. وتشكلت من الناشطين المحليين شبكات مدنية وسياسية، وظهرت مجلة واحدة على الأقل. وللمناسبة، كانت ظهرت عشرات المجلات والصحف المحلية منذ 2012 في سورية، صدرت من بعضها أعداد قليلة، ولا يزال بعضها مستمراً إلى اليوم، لكن لعله لم يعد أي منها محلياً بكل معنى الكلمة: يطبع محلياً، ويغطي الشؤون المحلية للمنطقة التي يصدر فيها.
في الرقة، أخذ الوضع يتدهور على نحو متسارع منذ منتصف الصيف. اختُطف فراس الحاج صالح، ثم ابراهيم الغازي، وبعد أيام غُيِّب الأب باولو دالوليو الذي قصد بنفسه مقر «داعش» في الرقة، معتقداً أنه يستطيع التوسط للمخطوفين، ومحاورة قادة الدواعش. وبعد قليل، اختفى محمد نور مطر بالتزامن مع تفجير «داعش» سيارة مفخخة استهدفت مقر تشكيل عسكري مرتبط بالجيش الحر. وفي تشرين الثاني، اختطف «طبيب الثورة» في الرقة اسماعيل الحامض، وكانت الواقعة أيضاً نقطة النهاية لنشاطات الثورة المدنية المستقلة. بعد شهرين، كان «داعش» ينفرد بالسيطرة على الرقة ضد إخوة المنهج من «جبهة النصرة» و «أحرار الشام».
في كل حال، سارت عملية الانفصال الاقتصادي للتشكيلات السلفية عن المجتمعات المحلية، عبر حصولها على دخول ريعية من داعمين، مع ضرب الناشطين الثوريين. هذه السياسة المتكررة تتّصل باستقلال تلك المجموعات عن المجتمعات المحلية وعن الثورة. الريع هو الأصل في ما يبدو من استقلال العقيدة الدينية وأصليتها.
في المقابل، كان الثائرون الديموقراطيون ممثلين لمجتمع العمل، قطاعات السكان التي تعيش من عملها، والتي تمردت على الدولة الأسدية كي تتحكم بثمار عملها، وتتواصل في ما بينها من دون رقابة مركز حكم طغموي، قائم على الخوة والنهب، والريع.
تقطّعت السبل بالثائرين الديموقراطيين المرتبطين بمجتمع العمل وبالبيئات المحلية، وحصل التحوّل بسرعة من سلطة مستولية على الموارد العامة تستهدفهم إلى سلطة تستولي على موارد عامة و/أو تحظى بموارد تخصها وتستهدفهم أيضاً. ومن كانوا نجوا من واحدة من سلطتين تعاديان العمل، مثل سميرة ورزان ووائل وناظم، ومثل فراس وباولو دالوليو واسماعيل الحامض، وقعوا بيد الأخرى. وعليه فليس ثمة بدعة في القول أن الأخرى استمرار للأولى، من وراء اختلاف العقائد والسماوات: السجن هو السجن وإن تبدل السجانون، والتعذيب هو التعذيب وإن تبدل الجلادون، والهيئات الشرعية هي أفرع المخابرات، وما كان تخويناً باسم الوطن صار تكفيراً باسم الله، والطائفية هي الطائفية وإن تبدلت الطوائف وتغيرت مظاهر الطائفيين.
وفي ما وراء غبار الكلام، بقي رابط السلطة – الثروة نفسه، ذاك الذي لا يمر بعمل ولا بمجتمع محلي.

* كاتب سوري

“الحياة”