في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، كاد حزب البعث العربي الاشتراكي يصبح جماهيرياً، فقد استحوذ شعار الوحدة والحرية والاشتراكية على قلوب الجماهير، وزاد من الرهانات الشعبية عليه، شعار ما زال يحبه كل العرب ويفتقدونه.. «البعث ثورة على الحدود».
تبخر كل شيء منذ وصل البعثان الشقيقان إلى سدة الحكم في العراق وسوريا، انتهى حكم البعث في العراق بكارثة تدفع المنطقة كلها أثماناً باهظة لها، واستمر الشقيق في سوريا، وها نحن نرى حجم الكارثة هناك وفي المنطقة العربية.
كان الشقيقان اللدودان على عداء عميق، جرت بينهما محاولات انقلاب وتصفيات، إلا أن أشياء كثيرة ظلت مشتركة، أولها اتجاه الحزبين الثوريين إلى التوريث، وثانيها اتهامهما باستخدام السلاح الكيماوي، ولو حسبنا كلفة البقاء في الحكم طيلة العهدين، لما وجدنا حاسوباً قادراً على تحديد حجم الخسائر.
غير أن خاصية ثالثة ظهرت هذه الأيام، وهي سوء قراءة الرسائل السياسية. في عهد صدام قُرئ صمت السفيرة الأميركية على أنه تشجيع لاحتلال الكويت، وكانت النتيجة أن تم اقتلاع صدام ونظامه من الجذور، وبأيد أميركية.
وفي أيامنا هذه قُرئت تصريحات وزير الخارجية الأميركي، التي قال فيها إن الإطاحة ببشار لا تشكل أولوية عند الإدارة، قُرئت كما لو أنها شهادة ميلاد جديدة للنظام، وإذعان دراماتيكي لسطوة الحلف الثلاثي الروسي الإيراني السوري، ولعل ذلك شجع النظام وحلفاءه على التسرع في تطوير العمل العسكري، وفي السياق جاءت حكاية خان شيخون.
المراقبون الذين يدعون قدرة على معرفة المسارات، أو الذين على قرب من المعرفة، لم يتخيلوا هبوط دفعات من صواريخ التوماهوك على مطار الشعيرات في حمص، فأميركا لا تضرب أهدافاً للنظام، فما بالك وعلى أرض المطار قوات روسية.
العالم لا ينتبه إلى السجال الدائر حول مسؤولية النظام عن استخدام الكيماوي في خان شيخون، فيكفي أن تتفق دول ذات نفوذ واسع على توجيه التهمة، حتى يتعامل العالم معها كحقيقة كاملة لا شكوك حولها.. وهذا ما حدث.
ورغم أن الضربة الأميركية النوعية ما تزال قيد البحث والتحليل، ولم يجزم أحد ما إذا كانت بداية لتصعيد عسكري جديد تمارسه أميركا بعد أن امتنعت عنه طيلة سنوات الحرب في سوريا، أم أنها بداية لمعادلة تسوية جديدة تبدأ بتحجيم الدور الروسي، وعزل الإيراني، ولا مناص في نهاية المطاف من الاستغناء عن خدمات بشار.
لم يذهب وزير الخارجية الأميركي إلى موسكو للاعتذار عن طرطشات شظايا أصابت القوات الروسية عن غير قصد في مطار الشعيرات، فقد سبقه تحذير بعدم التمادي في استنتاجات غير واقعية عن دور أميركا في عهد ترمب، فقد قال الأميركيون… «لئن خرجنا من الساحة لبعض الوقت فلدينا القدرة على العودة إليها في أي وقت».
أما حكاية بشار، فقد تركتها الضربة الأخيرة مع الاستقطاب المتجدد لمصلحتها تحت بند تحصيل حاصل.
اجتماع الحلفاء الثلاثة والاستعانة بوزراء الدفاع يحمل رسالة ملتبسة، فهل هو إنذار بتصعيد مقابل في عين المكان أو في أماكن أخرى، أم أنه ضرورة من ضرورات تعديل الميزان النفسي الذي اختل بضربة واحدة.
حتى الدوائر ذات الاختصاص، المشهود لها في قراءة الأحداث واستنتاج خلاصاتها بدقة، ما تزال حائرة في رسم ملامح الخطوة التالية.
إلا أن بين أيدينا حقيقة مجسمة هي أن واشنطن رممت وبفاعلية إلى حد ما، بناء تحالفاتها الحائرة في فهم السياسة الجديدة لواشنطن، والتي قرأت مؤشرات تقطع، وخصوصاً في عهد أوباما، بأن أميركا لا يؤتمن جانبها عند الحلفاء بما في ذلك إسرائيل التي انهمكت منذ توقيع الاتفاق الإيراني في تجميع علاقات وتحالفات موازية، وكانت موسكو على رأس الأولويات.
حلفاء أميركا أيدوا الضربة جهاراً نهاراً، وبعضهم طالب بالمزيد، ما أظهر أن جذور واشنطن في تربة دول الشرق الأوسط أعمق بكثير من الجذور المستجدة، حتى لو كانت قد بدت في مرحلة ما على أنها الأقوى والأعمق.
لا أعرف أين تقع نصيحة مقتدى الصدر لبشار في هذا المعمعان، ولكن قد تكون الأيام القادمة قادرة على تظهير الصور على نحو أوضح.