السيارات المفخخة والبراميل المتفجرة: حلب وحالة الحرب السورية

Middle East Report N°1559 سبتمبر 2014

الملخص التنفيذي

لمدينة حلب أهمية محورية فيما يتعلق بقدرة المعارضة غير الجهادية على البقاء عسكرياً وكذلك على معنوياتها، وبالتالي على قدرتها على وقف تقدّم تنظيم الدولة الإسلامية. بعد استيلاء تحالف من فصائل المعارضة المسلحة على نصف المدينة الشرقي في تموز/يوليو 2012، مثّلت حلب لفترة زمنية رمزاً لتفاؤل المعارضة والزخم الذي تتمتع به؛ أما في الشهور التالية، فإنها كشفت محدودية قدرات المعارضة المسلحة، حيث تباطأ تقدمها، وتصارعت فيما بينها لكسب ود السكان المحليين. أما اليوم، ومع وقوعها في حرب على جبهتين ضد النظام من جهة وضد تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى، فإن وضعها بات أكثر حرجاً من أي وقت سابق منذ بداية القتال. ثمة حاجة للقيام بعمل عاجل لمنع هزيمة المعارضة المعتدلة؛ إما من خلال ضغط إيران وروسيا على النظام لتخفيف حدة التصعيد، وإبداء استعدادهما لمواجهة تنظيم الدولة بدلاً من استغلال وجود التنظيم لتعزيز قوة دمشق؛ أو من خلال الاحتمال الأكثر واقعية والذي يتمثل في تحسين الولايات المتحدة وأوروبا والحلفاء الإقليميين لدعمهم الكمي والنوعي لفصائل للمعارضة المسلحة المحلية غير الجهادية في حلب. إن أي احتمال للتوصل في النهاية إلى تسوية متفاوَض عليها للحرب يعتمد على اختيار أحد المسارين.

تبقى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة في حلب وحولها الأكثر قيمة وأهمية بين الأصول الآخذة في التلاشي التي تسيطر عليها المعارضة غير الجهادية. عندما شعر النظام وحلفاؤه بضعف المعارضة في هذه المناطق استثمروا موارد كبيرة في محاولة إعادة الاستيلاء على المدينة؛ ويبدو أنهم باتوا على وشك قطع آخر ممرات الإمداد التي تربط هذه المناطق بتركيا. إلاّ أن المعارضة المسلحة لا تزال تتمتع ببعض الميّزات. تشمل الفصائل المسلحة في المدينة وحولها بعض أكثر فصائل الثورة قوة وشعبية. كما أن موقعها قرب الحدود التركية يسهّل تدفق الإمدادات والاتصالات. وهكذا فإن مهمة النظام هنا أكثر صعوبة مما هي في حمص ودمشق، حيث أجبرت تكتيكات الحصار الوحشي المعارضة على قبول التهدئة بشروطه. رغم ذلك، فإن حصاراً جزئياً للأجزاء التي يسيطر عليها المقاتلون في حلب يمكن أن يشكّل ضربة كبيرة جداً.

إلى الشرق، تواجه المعارضة المعتدلة عدواً مميتاً ثانياً هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان يسمي نفسه في السابق الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والذي يتمتع بمعنويات عالية بعد الانتصارات التي حققها في غرب العراق وشرق سورية. في كانون الثاني/يناير 2014، واجه تنظيم الدولة أقصى هزائمه عندما أخرجه الثوار من المدينة ومن أريافها الغربية والشمالية وأجبروا التنظيم على التوجه شرقاً. أما اليوم، ومع تمركز جزء كبير من قوات الثوار على الجبهة المواجهة للنظام، فإن تنظيم الدولة يحقق تقدماً شمال المدينة، ويتجه نحو عمق الشمال السوري الذي تسيطر عليه أبرز فصائل المعارضة غير الجهادية.

إن مزيجاً من انتصار النظام وتنظيم الدولة في حلب وحولها سيكون مدمراً ليس فقط للمقاتلين المحليين، بل للمعارضة السورية برمّتها. سيتردد صدى خسارة الأرض والمعنويات في سائر أنحاء البلاد، وسيدفع كثيرين إلى التخلي عن القتال أو الانضمام إلى قوة عسكرية أكبر هي تنظيم الدولة.

النظام وتنظيم الدولة ليسا حليفين، رغم أن تجنب الطرفين المواجهة المباشرة في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2014 أعطى البعض هذا الانطباع. في الواقع، ورغم الصدامات الأخيرة في شرق سوريا، فإنهما يتشاطران بعض المصالح القصيرة ومتوسطة المدى، وبشكل خاص هزيمة المجموعات المسلحة غير الجهادية التي تدعمها الدول الراعية للمعارضة، وخصوصاً المجموعات التي تحظى بالمصداقية لدى السكان المحليين. بالنسبة للنظام، فإن هزيمتها ستزيل ما تبقى من التهديد الوجودي الذي كان يخشاه والذي يتمثل في احتمال تقديم دعم عسكري قوي لخصومه المسلحين. أما بالنسبة لتنظيم الدولة، فإن ذلك سيخلّصه من معظم منافسيه الكبار، وبالتالي يصبح بوسعه فرض احتكار للمقاومة المسلحة لديكتاتور لا يحظى بالشعبية مدعوم من إيران، تماماً كما حدث في العراق.

ما هو على المحك في حلب ليس انتصار النظام بل هزيمة المعارضة. إذا حدث ذلك فإن الحرب ستستمر بحيث تواجه قوات النظام وحلفاءه، التي تفتقر إلى القدرة على إعادة الاستيلاء على أجزاء كبيرة في شرق وشمال سورية أو إخضاعها من خلال التسويات، قوات تنظيم الدولة الذي سيصبح أكثر جرأة بعد تعزيز قوّته باجتذاب مقاتلين من بقايا الفصائل المعارضة. وبين هذين العدوّين، لن يكون هناك احتمال للتوصل إلى تسوية سياسية وستتضاءل الآمال في استعادة سلامة الحدود السورية العراقية.

الوضع حرج، لكن الأوان لم يفت بعد. الجزء الأكبر من المعارضة المسلحة تسيطر عليه مجموعات، على عكس تنظيم الدولة، أظهرت استجابة للسكان المحليين وللدول الراعية لها. عيوبها كثيرة وأداؤها متفاوت، إلاّ أن المجموعات الأكثر نجاحاً بينها بدأت بإظهار البراغماتية السياسية اللازمة ليس فقط للمحافظة على بقائها بل أيضاً لإنهاء الحرب.

لقد فات الأوان بالنسبة للدول الراعية لكلا الطرفين للإقرار بأن الوضع الراهن سيؤدي إلى كارثة. بالنسبة لإيران وروسيا، فإن هذا يعني الاعتراف بأن استراتيجية النظام التي تسهّلانها تجعل التوصل إلى حل أمراً مستحيلاً وتعزز من قوة الجهاديين الذين يزعم النظام أنه يحاربهم، رغم حديثهما عن الحل التفاوضي ومكافحة الإرهاب. بالنسبة للداعمين الرئيسيين للمعارضة غير الجهادية ـ الولايات المتحدة، والسعودية، وقطر وتركيا ـ فإن هذا يعني الإقرار بأن تشددهم الكلامي، ودعمهم الضئيل وعدم تماسكهم الاستراتيجي ساعد على إفراز اليأس الذي نراه حالياً. الزيادات الأخيرة المتواضعة في الدعم للمجموعات المسلحة لن يحول دون هزيمتها، رغم أنه يمكن أن يغيّر التوازن السياسي والأيديولوجي فيما بينها. سورية تنزلق نحو حرب لا نهاية لها بين نظام استبدادي طائفي ومجموعة جهادية أكثر استبداداً وطائفية منه؛ وبالنظر إلى الاتجاهات الراهنة، فإنها ستزعزع استقرار الشرق الأوسط بشكل يتجاوز كثيراً سورية والعراق.

إن سقوط حلب وريفها في أيدي قوات النظام وتنظيم الدولة سيسهم بدرجة كبيرة في الوصول إلى ذلك المآل. على أية حال، ثمة وسيلتان لتحاشي ذلك:

  • الوسيلة المثلى هي من خلال الشروع في مفاوضات فورية وتنفيذ وقف إطلاق نار محلي بين قوات النظام وقوات المعارضة (المعادية لتنظيم الدولة) في حلب. سيسمح هذا لقوات المعارضة بتكريس مواردها لوقف مكاسب تنظيم الدولة وعكسها في النهاية. وهذا سيتطلب تحولاً دراماتيكياً في الاستراتيجية التي ينتهجها النظام: من تركيزه في المقام الأول على هزيمة المعارضة المعتدلة إلى إعطاء الأولوية للحرب ضد تنظيم الدولة، والاعتراف بأنه لا يمكن هزيمة تنظيم الدولة دون منح المعارضة المعتدلة دوراً. إذا كان النظام وحلفاؤه جادّون في إضعاف الجهاديين، ينبغي أن يُظهروا فوراً استعداداً لوقف هجماتهم في حلب والانسحاب إلى مواقع لا تهدد منها قواتهم خط الإمداد الرئيسي لقوات المعارضة في المدينة. إذا عُرِض وقف إطلاق نار كهذا، ينبغي على المعارضة المسلحة في حلب أن تقبل به وأن تضمن قبوله من حلفائها الجهاديين المعادية لتنظيم الدولة ايضا (مثل جبهة النصرة). وينبغي على الدول الداعمة للمعارضة أن تضغط عليها لفعل ذلك.
  • لا يبدو هذا التحوّل في استراتيجية النظام محتملاً. لكن في غيابه، فإن البديل الواقعي الوحيد هو أن تحسّن الدول الداعمة للمعارضة من دعمها، كماً ونوعاً، لمجموعات المعارضة المسلحة غير الجهادية وذات المصداقية وذات الجذور في حلب. يمكن أن يصبح ذلك أكثر كلفة للنظام وحلفائه من اتفاق محلي، حيث إن بعض الدعم سيستعمل لا محالة ضد قوات النظام. كما أن هذا الخيار سيحمل كلفة لداعمي المعارضة. كي يكون هذا الخيار فعّالاً، فإنه يتطلب، في الحد الأدنى، زيادة في المساعدات المالية، والذخائر والأسلحة المضادة للدبابات المقدمة لفصائل المعارضة المعتدلة، والتي يمكن أن ينتهي بعضها في أيدي الجهاديين؛ كما يتطلب مستوى أعلى من الاستثمار من قبل الولايات المتحدة والتعاون بين السعودية، وقطر وتركيا. حتى في حال نجاحه، فإن هذا الجهد لن يغيّر من ميزان القوى العسكري لصالح المعارضة المعتدلة، لكنه يمكن أن يمنع هزيمتها، ويوقف المكاسب التي يحققها تنظيم الدولة في جبهة رئيسية وبالتالي يحافظ على فرصة التوصّل إلى حل سياسي في النهاية.

الخيارات البارزة الأخرى المطروحة في النقاشات الغربية حول السياسات التي ينبغي تبنيها من المرجح أن تُحدِث أثراً عكسياً. إن الدعوات للشراكة مع نظام الأسد ضد الجهاديين تفتقر إلى الحكمة. ما لم تراجع قوات النظام موقفها بشكل جوهري وتتخلى عن عادتها في استغلال المكاسب الجهادية لمصلحتها، فإنها لا تملك الكثير مما يمكن أن تقدمه للحرب ضد تنظيم الدولة. إن اعتمادها الحالي على التكتيكات التي لا تميّز بين مدني وعسكري وعلى الميليشيات المدعومة من قبل إيران يلهب النيران الجهادية. أما المقترحات بتوسيع الضربات الجوية الأمريكية ضد تنظيم الدولة إلى سورية فهي وصفات تكتيكية غير كاملة تفتقر إلى البعد الاستراتيجي. يمكن وقف المكاسب التي يحققها تنظيم الدولة وعكس هذه المكاسب في النهاية فقط من خلال تمكين بدائل سنّية ذات مصداقية محلياً وكذلك على مستوى الحكم الوطني. في غياب استراتيجية أوسع لتحقيق ذلك، فإن الضربات الجوية ضد تنظيم الدولة لن تحقق الكثير؛ وفي الواقع، فإن الفوائد الدعائية التي سيجنيها التنظيم يمكن أن تكون أكثر أهمية من العقبات التكتيكية التي سيعاني منها.

هناك بالطبع مخاطر تكتنف السياستين الواعدتين أكثر من غيرهما والمعروضتين أعلاه. إلاّ أن إحجام أي طرف أو جميع الأطراف عن اتخاذ المخاطر سيؤدي فقط إلى كارثة.

 بيروت/بروكسل، 9 أيلول/سبتمبر 2014