كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

ثمة استيهامات عديدة تكتنف حضور “هيئة تحرير الشام”، “هتش” في السطور التالية، على امتداد الشمال الغربي من سوريا، وفي محافظة إدلب وريف حلب الغربي تحديداً؛ في عدادها، أو على رأسها ربما، ما يتردد من أنها اللاعب العسكري الأوّل على الأرض. ذلك صحيح، في كثير أو قليل، ولكنه ليس البتة منفصلاً عن الحقيقة الأكبر على الأرض أيضاً، بل هو مشروط بها وخاضع لها: أنّ تركيا، متمثلة في جيشها النظامي أساساً، ثمّ الفصائل المنضوية تحت سلطة الآمر التركي ثانياً، هي اللاعب الأعلى: عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، محلياً وإقليمياً ودولياً.

بهذا المعنى، وطبقاً للحقائق الميدانية الصلبة التي تكشفت خلال عمليات “هتش” العسكرية الأخيرة، يتضح زيف ما قيل عن تعهد أنقرة، ضمن سلسلة تفاهمات سوشي وإستانة مع روسيا وإيران (وبلسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، كما جزم بعض النطاسيين!) بتحجيم “هتش” عسكرياً في الشمال الغربي، حتى لو اقتضى الأمر توجيه ضربات عسكرية لها، مصغّرة أو وسطى ولكن منهجية ومتلاحقة. فالمنطق يقول إنّ بقاء كتائب الجولاني، في هيئة كابوس فعلي هنا أو متخيَّل هناك، مصلحةٌ تركية مفتوحة لأنها ببساطة مترابطة مع أغراض أنقرة الجيو ــ سياسية والعسكرية الأهمّ في الشمال السوري، أي تصفية نفوذ الـPKK هناك، وإقامة ما يشبه المنطقة العازلة شرق الفرات، وربما على امتداد الحدود السورية ــ التركية، والبقاء مثل حجر ثقيل يتوسط طاولة تقاسمات النفوذ في سوريا.

ويتناسى الكثيرون، والبعض يتغافل عن الأمر عامداً أغلب الظنّ، أنّ تركيا تدير 12 مركز مراقبة (أي: إشراف وتحكّم وسيطرة)، تمتدّ من أطراف حلب وحتى تخوم محافظة اللاذقية، مارّة بشمال محافظة حماة؛ وأنّ هذه تجاوزت، منذ برهة تأسيسها في الواقع، صيغة “النقاط” التي تمّ التفاهم عليها ضمن ترتيبات “مناطق خفض التصعيد”، فباتت أقرب إلى ثكنات ارتكاز وتحصين وانقضاض في آن. ومن الطريف، رغم قتامة دلالاته العسكرية والسياسية ــ أو حتى “العقائدية” لدى فصائل الجهاديين خاصة ــ أنّ عمليات “هتش” الأخيرة التي استهدفت “الزنكي” أو “أحرار الشام”، لم تتقاطع مرّة واحدة مع دروب أيّ من تلك الثكنات التركية، وإلا لانتهى التقاطع إلى صدام وقتال وعواقب…

وليس دون مفارقة صارخة أنّ “الجيش الوطني”، الذي أنشأته تركيا وينتشر في شمال حلب، اكتفى بالجعجعة اللفظية ضدّ “هتش”، والوعد بتشكيل “غرفة عمليات عسكرية” لمواجهة جحافل الجولاني الزاحفة؛ لكنه، في مثال حصار بلدة الأتارب قبيل اجتياحها، لم يحرّك ساكناً سوى ألسنة الناطقين باسمه، مكرراً معزوفة “رفع الجاهزية العسكرية”، ولكن في جبل الزاوية ومعرة النعمان وأريحا! هذه، بدورها، بصمة تركية لا تخفى، وهي تعيد التأكيد على أنّ اللاعب الأعلى هو الجيش التركي، وأنه يدير رقعة شطرنج مركبة يمكن أن تحتدم بين اللاعبين على الطرفين، ولكن بتوجيه من دماغ واحد وحيد.

ولم يكن ينقص هذا المشهد إلا شهادة إثبات، وتثبيت، جاءت من جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي، خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة؛ صحبة الجنرال جوزيف دنبر رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي يحدث أيضاً أنه أقرب جنرالات البنتاغون إلى مزاج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وإذْ تشدّق بولتون بحرص أمريكا على أولئك الذين قاتلوا “داعش” تحت لوائها، وأنّ واشنطن تتفهم مخاوف تركيا الأمنية جراء وجود كرد الـPKK شرق الفرات؛ فإنه، في المقابل، كان صريحاً واضحاً حول انسحاب أمريكي وشيك، مبرمج على مدى زمني لا يتجاوز 120 يوماً.

بذلك، وكما في مناسبات سابقة ذات صلة بالتوسع التركي في عمق الأراضي السورية، لا يصحّ تنزيه اللاعب التركي عن أداء واحد من تلك الأدوار الكلاسيكية المناطة بكلّ احتلال عرفه التاريخ: المناورة عن طريق خصم محلي، فعلي أو افتراضي، “هتش” هنا؛ هو في واقع الأمر أداة مؤقتة، ضمن منظومة أدوات متكاملة الوظائف.