جورج عيسى

على الرغم من استئثار الضربة الأميركيّة الصاروخيّة على مطار الشعيرات بجزء كبير من الأخبار العالميّة خلال الفترة الأخيرة، لا يُستبعد أن تخطف شبه الجزيرة الكوريّة الأنظار الدوليّة في وقت قريب مع ازدياد وتيرة قرع طبول الحرب هناك. فمع التجارب الصاروخيّة الباليستية المتكرّرة ل بيونغ يانغ، إضافة إلى تجاربها النوويّة التي بلغت الخمس حتى السنة الماضية والتي يمكن أن تصبح ستاً في وقت قريب، لم يعد بالإمكان استبعاد نزاع إقليمي-دولي في تلك المنطقة.
فبوجود رئيس أميركي يصفه خصومه بال “انفعالي” كدونالد ترامب، يصبح الأمر بشنّ هجوم عسكري أقلّ تقيّداً بالحسابات والتحليلات ودراسة موازين الربح والخسارة بتعقيداتها كافّة. على الأقلّ، هذا ما بدا من خلال المعلومات الواردة من واشنطن والتي رأى بعض أصحابها أنّ ترامب أمر بشنّ الهجوم على مطار الشعيرات لتأثّره بمشاهد الأطفال الذين اختنقوا بغاز السارين. هذا إلى جانب أخبار أخرى تقول أنّ لابنته إيفانكا التي تأثّرت سلباً بفظاعة المشاهد دوراً غير مباشر أيضاً بشنّ الهجمات.
لكنّ “انفعاليّة” الرئيس الأميركي والتي باتت تُعاب في عالم تعوّد على مشاهد الدمار والقتل والتهجير، لن تكون وحدها العامل الأساسي في أيّ حرب محتملة على كوريا الشماليّة. بداية، شدّد كثر على أنّ ضربات التوماهوك على المطار العسكري في سوريا، هو تحذير علنيّ أيضاً للرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ_أون. وكان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيليرسون قد أعلن في حديث إعلاميّ أنّ الضربة في سوريا هي تحذير للدول الأخرى بما فيها كوريا الشماليّة، مضيفاً أنّ “الردّ مرجّح” إذا شكّلت خطراً.
في العلاقات الدوليّة المعاصرة، يؤمن بعض المراقبين بفاعلية ضربة عسكريّة تشنّها واشنطن ضدّ دولة معيّنة على مستوى “ردعها” لدولة عدوّة أخرى. من بين هؤلاء وجوه بارزة كالكاتب في صحيفة واشنطن بوست الأميركية مارك ثيسن وزميله مايكل غيرسن وغيرهما. لكنّ آخرين يخالفونهم في هذه النظرة. الصحافي في مجلّة نيويورك تايمس الأمريكية ماكس فيشر كتب عدّة مقالات حول هذا الموضوع، واصفاً فكرة الردع ب “الخرافة”. إذ إنّ “مصداقيّة واشنطن” في الالتزام بتهديدها وتنفيذه لا يؤثّر على سلوك الدول الأخرى، بحسب رأيه ورأي باحثين آخرين كجوناثان ميرسر في مجلّة فورين أفّيرز والمؤرّخ الأميركي تيد هوبف، لأن “لا دليل مباشراً” على ذلك.
أكانت نظريّة الضربة “الرادعة” صحيحة أم لا، يبدو أنّ إدارة ترامب عازمة على تطبيقها بغضّ النظر عن “موضعيّة” أو “عالميّة” نتائجها، خصوصاً أنّ هذه الضربات لها طابع “تأديبي” أيضاً. فمع أنّ واشنطن عاقبت نظام دمشق على استخدامه السلاح الكيميائي بعمليّة واحدة، كرّرت تهديدها بإعادة استعمال القوّة، إذا لم يمتثل للنواهي الأميركيّة بالامتناع عن اللجوء إلى الكيميائي. وهذا يعني بالمحصّلة أنّ الإدارة تأخذ بالاعتبار ألّا تكون الضربة الأولى رادعة لنظام الدولة المستهدفة نفسها فكيف بالدول “المارقة” البعيدة؟ من هذا المنطلق، تشكّل هذه السياسة لدى ترامب توجّهاً لتحذير الأعداء “بالمفرّق” لا “بالجملة” أو بعبارة أخرى، بالتعامل مع كلّ حالة على حدة. يُضاف إلى ذلك، أنّه لا يمكن التعاطي مع سياسة الردع بصرف النظر عن النظام العالمي السائد. ففي نظام دولي أحادي القطب يمكن لتلك السياسة أن تتمتّع بتأثير شامل، أمّا في حالة سيادة النظام الفوضوي الذي يقترب منه العالم اليوم، تصبح عمليّة الردع ذات تأثير أكثر محدوديّة.
في مراجعة لتصريحات المسؤولين في كوريا الشماليّة بعد الضربة على سوريا، يبدو هؤلاء “غير خائفين” من تداعياتها البعيدة على دولتهم. فوزارة الخارجيّة هناك، رأت أنّ الهجمات على سوريا “لا يمكن غفرانها مطلقاً”. وأضافت أنّ متابعة السعي لتطوير الأسلحة النووية بات “الخيار الصحيح أكثر بمليون مرّة”، كما نقلت وكالة الأنباء المركزيّة الكوريّة. لكنّ عدم التراجع الكوري الشمالي ينعكس هو الآخر مزيداً من العجلة لدى الإدارة الأميركيّة لإنهاء هذا الملفّ.
في مقابلة أجراها ترامب مع صحيفة فايننشال تايمس البريطانيّة أوائل هذا الشهر، أكّد أنّه “إذا لم تكن الصين في وارد حل (مشكلة) كوريا الشماليّة، فسنفعل. هذا كلّ ما أقوله”. وهذا الكلام يوجّه ضربة أخرى لسلوكيّات إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وعلى رأسها طريقة استجابته للهجمات الكيميائيّة على الغوطة سنة 2013. فبعدما هاجم المقرّبون من ترامب خطوط أوباما الحمراء واصفين إيّاها بأنها رسم خطوط “في الرمال” أو “في الهواء”، عمدت الإدارة الحاليّة إلى تطبيق خطوطها الخاصّة بطريقة سريعة ومباشرة. لكنّ إعلان القطيعة مع السياسات السابقة لم يتوقّف عند هذا الحدّ. وأبرز مثال على ذلك، كوريا الشماليّة نفسها.
فعلى هامش سياسة الردع، يصرّ مستشارو ترامب على توجيه ضربة أخرى لإحدى نظريّات إدارة أوباما التي عُرفت ب “الصبر الاستراتيجي” تجاه الملف الكوري الشمالي: “سياسة الصبر الاستراتيجي انتهت”. قالها تيليرسون نفسه الشهر الماضي … “وجميع الخيارات على الطاولة”. يبدو أنّ الأمر لا يرتبط فقط بمجرّد إعلان “قطيعة” مع تلك السياسة، بل يكاد يصل إلى تبنّي نقيضها أيضاً. فمن جملة الخيارات الثلاث التي طُرِحت أمام ترامب للردّ على الأسد، كما تبيّن من الإعلام لاحقاً، اغتيال الرئيس السوري نفسه. لكنّ ترامب فضّل استبعاد هذا الأمر، في تلك اللحظة. ومجدّداً رفع مجلس الأمن القومي، كما نقلت قناة “أن بي سي” الأميركيّة، مجموعة من الخيارات للرئيس الأميركي من أجل التعامل، هذه المرّة، مع التهديد الكوري الشمالي. وكما في الملف السوري، كذلك في الملفّ الكوري، طُرِح خيار قتل رئيس البلاد. وإلى جانب هذا الخيار، اقترح المجلس نشر صواريخ نووية في كوريا الجنوبيّة، فيما قضى المقترَح الثالث بإرسال قوات خاصة تتسلّل إلى كوريا الشمالية للسيطرة على البنى التحتية.
بالنسبة لبعض المسؤولين في الإدارة الجديدة، إنّ “20 سنة من الديبلوماسيّة والعقوبات … فشلت في إيقاف برنامج كوريا الشماليّة”، على ما أكّده واحد من المستشارين البارزين لدى ترامب لقناة “أن بي سي”. وبالرغم من ذلك، يؤكّد المسؤول أنه “لا يدافع عن الحرب الاستباقيّة” ولا يستهين أيضاً بكلفة نشر الصواريخ النووية، غير أنّ الإدارة كانت تتعامل مع الملف وكأنّ الحرب “حاصلة اليوم”. فيما انتقد مسؤولون سابقون في إدارة أوباما هذه الخيارات وأبرزهم مارك ليبرت، السفير الأميركي السابق إلى كوريا الجنوبية والأدميرال المتقاعد جايمس ستافريديس في حديث مع القناة نفسها.
مع مرور الوقت، بدأ يظهر لترامب صعوبة الدفاع عن شعار “أميركا أوّلاً” في ظلّ عزلتها العسكريّة عن باقي الأزمات العالميّة. لكنّ قطيعة ترامب الواضحة مع سياسات سلفه، تقتضي إجراء قطيعة أخرى عن وعود ترامب المرشّح. وربّما هذا هو ما يحصل تدريجيّاً ولو بطريقة غير علنيّة. من جهة أخرى، ما زالت السياسة الخارجية للإدارة الجديدة غير متبلورة فعليّاً، بل هي أقرب إلى ردّ الفعل ضدّ نهج إدارة أوباما. ويعني هذا الأمر أنّه لا يمكن لواشنطن أن تستمرّ في بناء رؤيتها العالميّة بالاستناد إلى ردّات الفعل ونفي السياسات السابقة فقط.
في استطلاع رأي أجراه مركز “بيو” الأميركي تبيّن أنّ 58% من المستطلعين الأميركيين أيّدوا الضربات الأميركيّة على سوريا، لكنّ 61% منهم يعتقدون بعدم وجود سياسة واضحة تجاه الأزمة السوريّة. أمّا الباحثة في الشؤون الروسيّة أنجيلا ستينت فقالت في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانيّة “بي بي سي” أنّ الروس “يدركون أن لا وجود بعد لسياسة (أميركية) متجانسة تجاه روسيا”. هذان الخبران يسلّطان الضوء على ضرورة التعجيل في رسم سياسة خارجية واضحة لواشنطن خصوصاً تجاه بؤر التوتّر المختلفة حول العالم، كما هو الحال في سوريا وكوريا الشمالية وشرق أوروبا، وغيرها…
فعلى الصعيد الكوري الشمالي مثلاً، أعلن ترامب أنّ بلاده ستتحرّك بشكل أحادي إذا لم تتحرّك الصين لضبط جارتها. لكنّ الجنرال جون هايتن، قائد القيادة الاستراتيجية الأميركيّة، قال في شهادة أمام الكونغرس أوائل هذا الشهر، إنّ “أيّ حلّ لمشكلة كوريا الشمالية يجب أن يشمل الصين”. وذلك مثل إضافي على أنّ غياب السياسات الأميركيّة الخارجيّة يطال أيضاً المسألة الكوريّة.
المشهد الحاليّ يعيدنا إلى الشخصيّتين الرمزيّتين اللتين تشكّلان صلب العلاقات الدوليّة بحسب عالم الاجتماع الفرنسي البارز ريمون آرون: “الديبلوماسي” و “الجندي”. ويبدو جليّاً أنّ واشنطن تفتقد اليوم للديبلوماسي. فترامب وتيليرسون رجلا أعمال بالدرجة الأولى. أمّا وزارة الخارجية التي يترأسها الثاني فتشهد شغوراً في العديد من المناصب الحسّاسة التي لم يبدأ العمل على ملئها إلّا مؤخّراً. من جهة أخرى، شهد مشروع الموازنة الذي تقدّم به ترامب تخفيضاً لمخصّصات وزارة الخارجيّة في مقابل زيادة التمويل لوزارة الدفاع، الأمر الذي قد يزعزع التوازن المطلوب بين “الديبلوماسي” و “الجندي”. بهذا المعنى، إنّ خطأ تحويل الاستراتيجيّة إلى “صبر” كما حدث مع أوباما، قد لا يوازيه فداحة إلّا خطأ تحويل “نفاد الصبر” إلى استراتيجيّة مضادّة. الموازنة بين النقيضين قد تكون ربّما المهمّة الحيويّة لمجلس الأمن القومي الأميركي بهيكليّته الجديدة.