أكرم البني

عندما تغدو روسيا، على رغم ما وظفته من عنف دعماً للنظام، الطرف الأبرز الذي يطالب بعلمانية الدولة السورية، بدلالة بيان فيينا، ومشروعها عن دستور سوري جديد، وعندما يسعّر دونالد ترامب نزعات التفرقة الدينية ويمنع المواطنين السوريين من دخول بلاد العلمانية وحقوق الإنسان، وعندما تفاخر فصائل المعارضة المسلحة بنجاحها في حذف تعبير العلمانية من البيان الختامي لمفاوضات آستانة، والاستعاضة عنه بصفات عامة عن سورية المدنية والمتعددة الإثنيات والأديان، وعندما يطغى البعد الطائفي والمذهبي على الصراع السوري الدامي، مدعماً باصطفافات عربية وإقليمية موازية، عندها يمكن تقدير حجم التحديات أمام العلمانيين، ممن ساندوا ثورة شعبهم ضد الاستبداد والعنف والفساد، وماهية الأسباب التي تربكهم وتحاصر فرص دفاعهم عن خيارهم.
إبان انطلاق الثورة، لم يقتصر تحدي العلمانيين، على دحض مواقف، ذهبت مبكراً للطعن، تحت راية العلمانية، بمشروعية حراك الناس وصدقية مطالبهم، مسوغة كل أشكال القهر والعنف ضدهم، والذريعة أن كتلتهم الرئيسة تنتمي إلى طائفة محددة، وأنهم يعتمدون المساجد مراكز انطلاق لتظاهراتهم، بل امتد التحدي ليؤجج سجالاً قديماً حول الترابط الحيوي بين العلمانية والديموقراطية، ولتثبيت حقيقة، أن لا أفق لدولة يرجى لها أن تكون علمانية، حين يفرضها الاستبداد من فوق بالقوة والقهر ولا تؤسس على التراضي والاحتكام لقواعد الديموقراطية وآلياتها. وقد امتد التحدي أيضاً نحو فضح وتعرية التشويه المقصود الذي يقرن مفهوم العلمانية بالإلحاد، ولتأكيد حقيقة أن فصل الدين عن الدولة وضمان استقلال السلطة في التشريع وإدارة الحكم عن المؤسسات الدينية، لا يعني أبداً، إلغاء الدين أو عزله عن الحياة الاجتماعية، بل على العكس رعايته في إطاره الحيوي كحق وخيار شخصيين، بما في ذلك تعرية خطاب مغرض نجحت السلطة في تعميمه عن «دولة علمانية» تهددها جماعات إسلامية تسعى لتدمير تعددية المجتمع وفرض نمط حياتها وثقافتها، والغرض إخافة الأقليات الدينية وادعاء حمايتها لتحصيل بعض الشرعية في الساحتين المحلية والدولية.
والحال، هو تحدٍ مُلح بإقناع الرأي العام بأنه ليست ثمة دولة علمانية في سورية، وأن ما نراه، هو في أحسن الأحوال، دولة تكتسي صفات علمانية كمكتسبات تطورت منذ فجر الاستقلال، إن لجهة الحقوق المدنية، بخاصة للمرأة، في الحياة والتعليم والعمل، وإن لجهة الهوامش المتاحة لممارسة الشعائر الدينية، فرضها موضوعياً تعدد الأديان والطوائف المكونة للمجتمع وتاريخ طويل من التفهم والتسامح بينها.
والقصد، أنه لم تغب، وطوال عقود، ظواهر التمييز بين السوريين تبعاً لانتماءاتهم الدينية أو الطائفية، بل تكرست في شكل خفي في توزيع المناصب السياسية والإدارية والأمنية، وفي شكل صريح في تشتيت قانون الأحوال الشخصية بين مختلف الملل، مثلما لم تغب أو تهدأ آليات التعبئة الطائفية والمذهبية لتعضيد النظام خالقة مظالم لدى الأكثرية وردود أفعال موازية. ولا يغير هذه الحقيقة مراحل موقتة لعب فيها الفكر القومي السلطوي دوراً في إعاقة تقدم الأصولية الدينية وتمكين العلمانية، لكن من دون تكريسها في حقول الحياة والقانون والتربية، بل تسخيرها لتعزيز استبداده وتثبيت خياراته ضد القوى الدينية، ثم عند الحاجة، تشجيع النزعات الاسلاموية المحافظة لمحاصرة موجات المد الشيوعي والفكر العلماني المعارض ودعاته.
وفي المقابل، لم يكن بسيطاً أو عابراً التحدي أمام العلمانيين الديموقراطيين للتخفيف، تحت وطأة الحاجة، إلى التكاتف في مواجهة الاستبداد، من تنامي الشكوك حول صدقية التيارات السياسية التي تستمد من الدين أصولها ومرجعيتها، بما في ذلك الاضطرار لإبراز ما يمكن رصده من تباينات بين التجارب التي يستند إليها للطعن بصدقية التيارات الاسلامية عموماً، وبين الإسلام السياسي في سورية، لتشجيع الرهان على ثبات التزامه بشعارات الحرية والمواطنة والدولة المدنية التي تبناها.
وزاد التحدي صعوبة وتعقيداً، نكوص «الإخوان المسلمين» في مصر عن وعودهم وانفتاح شهيتهم، بمجرد وصولهم إلى السلطة، للاستئثار الفظ بالحكم، ولأسلمة الدولة والمجتمع، ثم اندفاعات أردوغان المتواترة لنزع المزيد من الصفات العلمانية عن الدولة التركية، والأهم انجرار أهم التنظيمات الاسلامية في المعارضة السورية لدعم الهيئات الشرعية ونمط الحياة الإسلامي، على حساب الشعارات المدنية والروابط الوطنية، في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، ليعزز ما سبق السمة المؤسفة للعلمانيين السوريين، بأنهم في غالبيتهم ينتمون إلى أقليات دينية وقومية، لجأوا لتحصين أنفسهم خلف راية العلمانية تحسباً من هيمنة ثقافة تهدد بأجندتها الشمولية خصوصية هذه الأقليات وحقوقها.
لم يعد ينفع بعد اليوم تكرار القصص والحكايات من التاريخ السوري عن عمق التعايش بين الأديان، وعن رحابة صدر الأكثرية الدينية في مراعاة مصالح أبناء الطوائف الأخرى، وعن دورها في حماية مراكز عباداتهم وحرية إقامة صلواتهم وشعائرهم، وعن تباهيها بالسماح لبعض كفاءاتهم بتبوؤ مناصب سياسية رفيعة (فارس الخوري نموذجاً)، لأن مثل هذه القصص والحكايات هو ما يكرس ضمناً التفرقة والتمييز، ويؤبد النظر إلى المجتمع كأكثرية وأقليات دينية وليس كمجتمع مواطنة، ما يفرض تحدياً مزدوجاً على العلمانيين السوريين، مرة، بتشذيب ما تدعيه الأكثرية عن مراعاتها شؤون الأقليات، ومباهاتها بمنحهم العطايا مغفلة الضمانات الحقوقية والقانونية لجميع مكونات المجتمع ونصرة المواطن المتساوي من دون النظر إلى جنسه ومذهبه ودينه وقوميته، ومرة ثانية، ببذل جهود خاصة لتمكين العلمانية من الانتشار والرسوخ في صفوف الأكثرية، ليس فقط من أجل أن لا تغدو راية العلمانية، كما يراد لها سلطوياً أن تكون، أداة ظلم واضطهاد ضد الأكثرية، وإنما أساساً لأن الأكثرية المجتمعية، وبصفتها كذلك، هي موضوعياً المسؤولة عن قيادة المجتمع ديموقراطياً وحضارياً، ومعالجة شروخه القومية والدينية والمذهبية، والتي إن لم تتقدم على الأقليات في ملاقاة مستلزمات الـحضارة الإنسانية، وبناء رؤية جديدة تنأى بالدين عن دنس السياسة، فإنها تفقد دورها التاريـخي الريادي، وتترك مـجتمعها أسير صراعات مدمرة، لا نهاية لها.

الحياة