في الذكرى الثامنة للثورة، يقف السوريون وقفة تقدير واحترام لآلام شعبهم ومعاناته في مختلف المواقع في الداخل والخارج وفي مخيمات اللجوء. ويثمنون عالياً تضحياته الهائلة من الشهداء والجرحى والمصابين والمعاقين الذين سقطوا بمئات الآلاف في ساحات الثورة السورية الشريفة؛ التي انطلقت سلمية في مطلع ربيع 2011 رافعة مشعل الحرية والكرامة، ملاقية أحلام وطموحات السوريين في إنهاء نظام التسلط والاستبداد الذي جثم على صدر البلاد لمدة نصف قرن. تكمن شرعية هذه الثورة من كون الشعب السوري يغرق منذ نصف قرن في جور القمع والخوف والصمت، في ظل نظام ٍيعتقدُ بتأبيد سلطانه وسيطرته على الشعب بقوة القهر وتعميم النهب والفساد وتمزيق المجتمع؛ ولقد أطفأ جذوة الحياة الحرة الكريمة لدى شعب مبدع للحياة والحضارة ومتعطش للحرية والديمقراطية والعدل.
          اليوم ونتيجة إمعان النظام في سياساته الإجرامية ضد الشعب وإصراره على مواصلة هذه السياسة بأي ثمن، تحولت بلادنا إلى ساحة للصراع الدولي والإقليمي، وذلك بعد استقدامه دولاً ومليشيات طائفية لإنقاذه من السقوط أكثر من مرة، وإفساحه في المجال لدخول قوى التطرف والإرهاب لتكون ذريعة من أجل استهداف جميع السوريين وحياتهم ومستقبلهم. لقد دخلت البلاد مرحلةً بالغة التعقيد بسبب تضارب مصالح الدول وأجنداتها الخاصة في سوريا وفي المنطقة عموماً. وهذا ينذر بمواجهات بين هذه الدول، ويدفع الشعب السوري ثمن فواتيرها من حياة أبنائه ولقمة عيشهم ووحدة بلادهم وحريتها واستقلالها.
 يعاني شعبنا السوري اليوم من نتائج الأعمال الإجرامية التي ارتكبها النظام، التي لم تقتصر على استخدام السلاح الكيماوي، وقصف الطيران وإلقاء البراميل المتفجرة، وإنما قتل الناس في السجون تحت التعذيب، وأعمال التهجير والترحيل القسري تحقيقاً لمخططات مشبوهة. كما يعاني السوريون في جميع مناطقهم من الأزمات المعيشية الخانقة نتيجة للسياسات الاقتصادية التابعة والقائمة على إطلاق النهب والفساد ورهن ثروات البلاد للأجنبي. إن استفحال نهج النظام في ممارساته وسياساته في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تسود البلاد، قد جعل جميع فئات الشعب السوري من موالاة ومعارضة على مستوى واحد من السخط والغضب والاحتقان.  ولقد بدأ هذا الوضع الراهن ينذر بانفجارات شعبية جديدة.
  إن النظام الذي وضع نفسه في موقع العداء لشعبه، ويتصرف كقوة احتلال واغتصاب للحقوق، ليس مؤهلاً لأي إصلاح أو تأهيل مهما حاولت القوى الداعمة له الدولية والإقليمية والعربية. فلا بد من تغييره ورحيله. والطريق إلى ذلك مرهون باستئناف العملية السياسية في جنيف بطريقة جادة ومثمرة وفق مرجعية القرارات الأممية بدءاً من بيان جنيف 1 لعام 2012 والقرارات 2118 و2254 وقرار الجمعية العامة 162 / 67.
          ومن طرف آخر، فإن مآلات الثورة على الصورة التي هي عليها اليوم، تكشف إلى حد التعرية تلك الأخطاء والخطايا التي مورست بحقها من قبل مؤسساتها على الجبهتين السياسية والعسكرية، كما كشفت عن تردي الوضع العربي وتمزقه وعجزه وتخلفه. ويجب ان لا يغيب عن بالنا هنا في سياق الصيرورة السورية عجز الأمم المتحدة، ونفاق المجتمع الدولي وتردده في نصرة الشعب السوري من أجل تحقيق أهدافه في الحرية والكرامة والعدل والمساواة. فلقد ضرب المجتمع الدولي عرض الحائط بالقوانين الدولية والإنسانية، وتخلى عن الوقوف إلى جانب مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة. وإلا كيف نفهم هذا السكوت المخزي عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السوري مدعوما من حلفائه الإيرانيين وميليشياتهم الطائفية والطاغوت الروسي تحت سمع وبصر العالم أجمع؟
    ومهما يكن فإن ثورة الشعب السوري، وهي تقف على عتبة عامها التاسع، لا تزال تمتلك من تصميم الشعب وتضحياته ومن استخلاص دروسها وتجاربها مقومات الاستمرار والنهوض. لأنها طفت على سطح الأحداث من استحقاق موضوعي وتاريخي، وأصبحت بكل ببساطة من مكوِّنات الوجدان الجمعي السوري، مزروعة في نفوس وقلوب وعقول السوريين وآمالهم وأمانيهم.
 فالتفجر الذي جرى في كل المنطقة العربية لم يكن طارئاً، فهو انطلق من أسباب وظروف موضوعية أطفته على السطح، وها نحن نرى موجة جديدة من الربيع العربي في السودان والجزائر، وهذا يؤشر بوضوح إلى أن الشعوب العربية مصممة على بلوغ ربيعها وامتلاك حريتها وفرض إرادتها. ولقد كانت المحطة السورية لأسباب داخلية وإقليمية وجيوسياسية من أهم وأنبل وأعقد هذه المحطات.
 وبهذه المناسبة نحن كسوريين مدعوون لوقفة نقدية تأملية صريحة في مسيرة الثورة وما لها وما عليها وفاءً لدماء الشهداء، وصوناً لشعارات الثورة وأهدافها النبيلة التي ارتوت بالتضحيات العظيمة لأبناء شعبنا، عبر مسيرته الطويلة في مقارعة الاستبداد والطغيان. كما أننا مدعوون اليوم إلى معرفة موقعنا وأين نحن الآن سواء على مستوى الثورة ومحيطها أو على مستوى الفضاء الإقليمي والدولي؟ تمهيداً للإجابة على السؤال الكبير ما العمل؟
فالمؤسسات التي انتسبت إلى الثورة، أو نُسِّبَت لها وحاولت تمثيلها، لم تعد تقنع الشعب السوري بالثقة بها لتمثيل إرادته في التغيير والانتقال إلى دولة الديموقراطية والمواطنة. ولقد تبين ذلك بوضوح بعد ارتهانها لإرادات الدول ومصالحها، وانصياعها لتفسيرات رغبوية وذاتية بالنسبة إلى العملية السياسية والقرارات الدولية تماشياً مع سياسات الاحتلال الروسي الذي يعمل على فرض نفسه على العملية السياسية كما فرض قوته على الأرض. فتسويق اللجنة الدستورية على أنها بوابة الحل السياسي يوجه طعنة كبيرة للعملية السياسية وأهداف الثورة، بتحقيق نسف ” هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية ” التي تمثل البوابة الحقيقية والوحيدة للحل السياسي.
 فالمطلوب مقاربة وطنية للحل بعيدة عن العقائد والأيديولوجيا. ولا بد من صون القرار السوري المستقل، بعيداً عن التدخلات الخارجية والتبعيات المُذِلة بذرائع براغماتية وانتهازية وحسابات حزبية ضيقة، من أجل تحقيق الحضور السوري اللائق في العملية السياسية وسياقاتها، وإخراج جميع الجيوش الأجنبية دون تميز وكل المليشيات الإرهابية العاملة على الأرض السورية.
وهذا يحتاج لكيان وطني سوري يستحق ثقة الشعب، ويعمل لحيازة هذه الثقة، يتأسس على قاعدة الوطنية السورية الحقيقية، ويقوم بمهمة مركزية لتجميع قوى الثورة المختلفة وتنظيمها، ومواجهة مسؤولياته السياسية والإعلامية والقانونية في تمثيل الثورة وإقامة العلاقة المتوازنة مع الأصدقاء والحلفاء من الدول.
  إن شعلة الحرية التي اتقدت بدماء الأحرار لن تنطفئ، ولن تقدر قوى الشر والطغيان والثورة المضادة مهما تكالبت أن تخمدها، لأن بذورها مغروسة عميقاً في نفوس الأجيال، وستنتصر حتماً بإرادة السوريين مهما طال الزمن.
 عاشت ثورة الحرية والكرامة والعدل والمساواة، والمجد للشهداء.
تحية لنضالات السوريين في كل مكان.
وتحية لشباب السودان والجزائر الذين يعملوا إحياء الربيع العربي بالسلمية والوطنية من جديد.
دمشق في 15 / 3/ 2019                            
                                                                              اللجنة المركزية
                                                            لحزب الشعب الديمقراطي السوري