كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

في صحيفة «إندبندنت عربية»، أحدث مقتنيات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ميادين الإعلام، أجرى رئيس التحرير عضوان الأحمري حواراً مستفيضاً مع بندر بن سلطان، «أمين عام مجلس الأمن الوطني السابق ورئيس الاستخبارات في السعودية وسفيرها في واشنطن لأكثر من 22 عاماً»، حسب توصيف المحاور. وفي ختام الجزء الأوّل، أسهب بندر في الحديث عن آل الأسد، حافظ وبشار، خلال زيارات كثيرة قام بها إلى دمشق؛ حيث نقرأ عن لقاءاته مع الأسد الأب، ثمّ وريثه، ثمّ بعض «رجال الرئيس»، أمثال عبد الحليم خدام وفاروق الشرع؛ وبعض رجال الوريث، أمثال مناف طلاس. أقاصيص الأمير تفوح منها، بقوّة في الواقع، روائح الاختلاق والتباهي الكاذب، وادعاء دور في التسوية بين الأسد الأب ودولة الاحتلال الإسرائيلي لا يقرّه العقل البسيط ولا مسرد وقائع تلك السياقات.
هو، مع ذلك، سلوك ليس غرض هذه السطور، التي تحاول تصويب ما يسرده بندر لصالح إحقاق خلاصة كبرى، لعلها الأكثر فائدة في نهاية المطاف: أنّ آل سعود، في شخص بندر تحديداً؛ وآل الأسد، في شخص الأب والوريث؛ يجسدون خير تجسيد ذلك المثل العربي الشهير، عن شنّ الذي وافق طبقة؛ مع فارق انعدام الدهاء والتدبير والذكاء والصدق، لدى الطرفين هنا، غنيّ عن القول. لا بأس، إلى هذا، من اقتباس نموذج واحد على طريقة الأمير في التكاذب؛ إذْ يروي أنّ أوّل مرّة سمع فيها «بشيء اسمه بشار الأسد» كانت حين ناشده صديق سوري أن يتوسط لدى الحكومة البريطانية كي تقبل تخصص طبيب العيون نجل الأسد، وأنه فعل، ووافق البريطانيون، وهكذا جاء بشار إلى لندن.
يستغفل الأمير العقول، على النحو الأكثر ابتذالاً، حين يفترض أنّ قبول أي طبيب أجنبي للتخصص يحتاج إلى موافقة حكومية بريطانية، وليس موافقة الجامعة أو المشفى المعنيّ بالطلب، بمعزل عن إجراءات التأشيرة العامة بالطبع. أو حين يتناسى حقيقة أنّ مجيء طبيب العيون ذاك إلى بريطانيا كان ميدان تسابق محموم بين رجال أعمال سوريين، بعضهم مليارديرات تجارة واستثمارات ونفط؛ ورجال مناصب دبلوماسية، بما في ذلك الجامعة العربية؛ ورجال جامعات عريقة وأكاديميات وبيوتات أبحاث، حتى تلك البريطانية الكولونيالية العتيقة. ذلك لانّ الأسد الأب، ليس في حينه فحسب، بل على امتداد سنوات حكمه منذ انقلابه العسكري في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ كان أثيراً لدى الحكومات البريطانية المتعاقبة، بسبب من سياساته التي خدمت مشاريع الغرب في سورية والمنطقة عموماً، وكذلك لأنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت راضية عن نظامه، كلّ الرضا.
ويروي بندر بعض تفاصيل تنصيب الوريث، وكيف (في حضرة الأمير شخصياً!) كان يغلظ في القول لجنرالات الجيش، أو يطرد الشرع من الغرفة، أو يحكي (للأمير دائماً) أنهم، بعد وفاة الأب، «أتوا بـ 10 عمادات مع قادة المناطق ودخلتُ عليهم وقاموا بإلقاء التحية وبعضهم يترحم، وقلت لهم: اششش… أنت ستغادر غداً، وأنت هذه السنة الأخيرة لك، أنت ستبقى، ما سمعته على لسانك عني أعجبني، أنت سأقطع لسانك… أنت أخذت كم مليون دولار حنحاسبك وأنت كذا وكذا… وبدأ بشار بتوزيع الـ «أنت» وبعدها ما سيفعله بكل عماد والعماد هو أعلى رتبة عسكرية». ويسرد، أيضاً، خشية الأمير عبد الله، ولي العهد يومذاك، من أنّ بشار «غليّم ما يعرف يحكي»، وأنّ «سوريا تهمنا، ما نبغاها تسقط»؛ وكأنّ المملكة لم تكن على علم بتفاصيل التوريث كافة، منذ موت باسل الأسد سنة 1994، وكيف تمّ سريعاً استبداله بالوريث الثاني بشار.

النقطة الأهمّ في الحوار هي ما ينقله بندر، على لسان الأسد الأب، عن «الألم» الذي أصابه من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، حين قرر الأخير «أن يغيّر المعادلة، وأعطى خطاباً لوزير الخارجية الأمريكي موجهاً للرئيس الأمريكي يقول فيه أبلغ الأسد أنني موافق على الانسحاب من الجولان، إذا تعهد لكم أنتم لا نحن، بإعادة العلاقات وغيرها، وأحد الطلبات سحب الأسلحة الثقيلة إلى الحدود التركية». ويتابع بندر، على لسان الأسد دائماً، أنه لو استغل تلك الفرصة «لكان الجولان لنا، ولفتحنا سفارة لا نجعل أحد [كذا في أصل «الإندبندنت»] يعمل فيها، لكن الفرصة ضاعت». في عبارة أخرى، الأمر هنا يتصل بما اتخذ بعدئذ تسميةً شهيرة هي «وديعة رابين»، التي حملها وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي يومذاك، في آب (أغسطس) 1993. وهذه حكاية سوف يستعيدها الوريث، كما استعادها الأب مراراً وتكراراً، وكلما دار حديث عن استئناف مسارات التفاوض بين النظام ودولة الاحتلال.
ففي صيف 2007، خلال خطاب تتويجه لـ«رئاسة» ثانية، تحدث الأسد الابن عن الوديعة هكذا (مرتجلاً، وفي الارتجال فضيلة افتضاح مكنون أوسع): «المطلوب بالحدّ الأدنى تقديم وديعة على طريقة وديعة رابين أو شيء مكتوب.. لكى نضمن بأنّ الحديث هو ليس حول الأرض التى ستعود.. لأن الأرض ستعود كاملة. نحن نفاوض على أمور أخرى.. نحن نحدد هذا الخط.. خط الرابع من حزيران/يونيو على الخارطة.. يتم النقاش حول موضوع الترتيبات الأمنية.. العلاقات.. كما حصل فى التسعينيات أيام رابين». وكان الطرح ذاك غريباً، من وجهة أولى مفادها ثقة الأسد في أنّ الأرض ستعود على يديه وفي عصر نظامه، ولم يكن أحد سواه يدري بأيّ الوسائل سينجز هذه المعجزة، وكيف.
غرابة ثانية هي جهل الوريث، أو تجاهله، بأنّ تلك الوديعة اقترنت منذ البدء بخطأ من نوع ما، ارتكبته الأطراف الثلاثة في آن معاً. رابين أخطأ حين حمّل كريستوفر رسالة «غير مدوّنة»، أو «لا ـ رسالة» Non – Letter كما استطاب البعض وصفها، ليست ملزِمة للإسرائيليين من الناحية القانونية، ولكنها انقلبت إلى «زلّة تفاوض» إسرائيلية تمسّك بها الأسد الأب وحوّلها على الفور إلى وثيقة مدوّنة ملزمة. وكريستوفر أخطأ حين نكث بوعده لرابين (أن يبقي الرسالة في عهدته، وأن يضعها في خلفية التفكير والمناورة ليس أكثر)، فباح بها أو ببعض عناصرها إلى الأسد، ظانّاً أنه بذلك سوف يساعد في دفع الأمور. والأسد أخطأ حين تلكأ في اغتنام الفرصة، ثم عاد ليطالب بها، ولكن بعد فوات الأوان.
الطريف أنّ بندر ينصّب نفسه مندوباً عن الجميع: الملك فهد، وليّ عهده عبد الله، الرئيس الأمريكي بيل كلنتون، وزير خارجيته كريستوفر، رابين، شمعون بيريس بعد مقتل رابين… كلّ هؤلاء، دفعة واحدة، خلال اجتماع مع الأسد الأب في دمشق: «وقتها كنا أنا وحافظ نضع على الطاولة الخارطة التي يمكن أن يعمل عليها الطرفان السوري والإسرائيلي، حتى ينتهي موضوع الجولان»! وأمّا وجه الطرافة فإنّ المعلومات التي يسردها بندر عن إشكالية الأمتار المتنازع عليها في محيط بحيرة طبرية، كان يعرفها أبسط صحافي دولي مشتغل بالشأن التفاوضي هذا، وكان ضابط الاستخبارات السوري بهجت سليمان يوجّه رجاله في الإعلام السوري لترويجها.
الأطرف، مع ذلك، هو أنّ الأمير بات نجماً ساطعاً في الملفّ السوري بعد انتفاضة 2011، وكان بعض أقطاب «المعارضة» السورية الإسطنبولية يحجون إليه، فرادى وجماعات؛ ثم أفل نجمه هنا، أسوة بنجومه كافة في ما بعد. وسوى إعادة تثبيت المثل العربي، عن انطباق آل سعود وآل الأسد؛ ما الذي ترمي إليه صحائف محمد بن سلمان من نبش القبور اليوم، أمواتاً وأحياء؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس