كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

بين مظاهر ولع نظام عبد الفتاح السيسي بالعروض السوريالية، التي لا تستحق من التسمية إلا ابتذالها الأدنى في الواقع، يُشار إلى مسرحيتين عمدت أجهزة السجون المصرية إلى إخراجهما مؤخراً؛ من دون أدنى اكتراث بحقيقة أنّ لذرّ الرماد في عيون الناس حدوده القصوى، التي لا تفضح المخرج والممثلين والعرض بأسره، فحسب؛ بل تنقلب ضدّ المراد، وإلى نقيضه مباشرة.

المسرحية الأولى هي مسارعة نزلاء سجن برج العرب إلى تهنئة السيسي في مناسبة عيد ميلاده، على مرأى ومسمع وزير الداخلية ومساعده لقطاع السجون وحفنة من “نوّاب الشعب”، وجمهرة من إعلاميين على طراز أحمد موسى وعمرو الليثي. ليس هذا فحسب، بل كشف السجناء عن وعي وطني سياسي فائق، وبالأحرى استثنائي، حين طالبوا “مروّجي الشائعات”، أي منظمات حقوق الإنسان الناقدة لفظائع الاعتقال والاحتجاز، أنْ “سيبونا في حالنا”؛ لأنهم، على عكس ما يُروَّج، يتلقون أفضل الرعاية الاجتماعية والصحية والغذائية و… الرياضية!

المسرحية الثانية كان وراء إخراجها تقرير لخبراء مستقلين في الأمم المتحدة، يحذّر من أنّ عشرات السجناء في معتقلات السيسي يمكن أن يلاقوا مصير الرئيس السابق الراحل محمد مرسي؛ أي “القتل التعسفي بقرار من الدولة”، في ظروف احتجاز “يمكن وصفها بالوحشية”، و”انتهاكات جسيمة لحقوقهم الإنسانية”. سلطات السيسي، تحت ستار ما تسميه “الهيئة العامة للاستعلامات”، سارعت إلى تنظيم زيارات صحفية إلى عدد من السجون المصرية، وصوّرت شريطاً لا يُظهر من مفهوم السجن إلا أجواء منتجعات الخمس نجوم، حيث حفلات الشواء والاحتفال والمرح والاسترخاء.

ولم يكن ينقص هذا الابتذال للولع السوريالي إلا مشاركة الأجهزة التابعة التي تعلّق لافتة حقوق الإنسان، كما في تصريح رئيس لجنة حقوق الإنسان في ما يُسمّى “مجلس الشعب”؛ بأنّ سجون مصر بعد 30 حزيران (يونيو) 2013، تاريخ انقلاب السيسي، هي “في أفضل حالاتها على مر التاريخ”! أو دخول القضاء (المستقل!) على خطّ المسرح المبتذل ذاته، في تصريح رئيس الإدارة العامة لحقوق الإنسان في مكتب النائب العام؛ بأنه “لا يوجد معتقل سياسي أو معتقل رأي واحد في مصر”، هكذا قطعياً، بل هناك “حبس احتياطي تتخذه النيابة لمصلحة التحقيق، فربما يخرج المتهم ويعبث بأدلة أو يؤثر على الشهود أو يهرب وأحياناً تكون حياة المتهم نفسها معرضة للخطر”!

الأرقام، في المقابل، تقول بوجود أكثر من 10 آلاف حالة حبس احتياطي، حسب تحقيق نشره “مدى مصر” في صيف 2018، وأنّ الأجهزة الأمنية لجأت إلى هذا التدبير من باب الالتفاف على قرار المحكمة الدستورية بعدم دستورية الاعتقال الإداري. كذلك تقول الإحصائيات إنّ عدد السجون التي أُنشئت في عهد السيسي بلغ 26 سجناً، من أصل 68؛ فضلاً عن 382 مقرّ احتجاز داخل أقسام الشرطة، وعدد غير معلوم من السجون السرّية في معسكرات الاعتقال وأقبية الأجهزة الأمنية المختلفة. أخيراً، وليس البتة آخراً، تسبب الإهمال الطبي في وفاة 600 سجين منذ خريف 2013، وقُتل عمداً أو تحت التعذيب 56 مواطناً، وعدد حالات الاختفاء القسري تجاوزت 6000…

ومع ذلك كله، وسواه كثير من المعطيات والوقائع، كان “الاستياء” هو أقصى ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أثناء لقائه مع السيسي في برلين مؤخراً، إزاء وفاة المواطن المصري مصطفي قاسم في أحد السجون. ولولا أنّ الأخير يحمل الجنسية الأمريكية أيضاً، وبعض أعضاء الكونغرس الأمريكي طالبوا بمحاسبة النظام المصري على وفاته، لما استاء بومبيو أمام “الدكتاتور المفضّل” عند سيده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وذُكر بالخير جون ماكين، السناتور البارز والمرشح الجمهوري الأسبق للرئاسة الأمريكية، الذي لم يتردد في اعتبار عزل محمد مرسي انقلاباً كامل الأوصاف: “إذا كانت تصيح كالبطة، وتمشي كالبطة، فهي بطة”!.

… بل يمكن أن تُشوى أيضاً، في مآدب سجناء العقرب وبرج العرب وطرة وأبو زعبل!