لا يزال جنوب العاصمة السورية دمشق يتصدر المشهد السوري الحافل بالتطورات المتلاحقة التي تدفع باتجاه تعقيد المسألة السورية التي دخلت مرحلة جديدة من مراحل التهجير على أساس طائفي بين النظام وحلفائه الإيرانيين من جهة، وبين تنظيمات متشددة اتخذ منها النظام وحلفاؤه ذريعة لإعادة “هندسة” البلاد ديمغرافياً لتثبيت النظام في السلطة، وترسيخ الوجود الروسي الإيراني الذي بات يرقى إلى مستوى الاحتلال المباشر. وجاء اتفاق النظام والجانب الروسي و “هيئة تحرير الشام” (تحالف تقوده جبهة النصرة) يوم الأحد الماضي على إجلاء سكان سوريين ينتمون إلى الطائفة الشيعية من شمال غربي سورية مقابل إخراج مُسلحي الجبهة من جنوب دمشق، كأحدث حلقة من مسلسل تهجير طويل بدأه النظام منذ عام 2014 هدفه خلق “مجتمع متجانس” خالٍ تماماً من معارضة تنادي بتغيير سياسي عميق.
وأفادت وكالة “سانا” التابعة للنظام ببدء دخول الحافلات إلى بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب شمال غربي سورية، لإخراج مسلحين في مليشيات طائفية ومدنيين سوريين شيعة بموجب الاتفاق المبرم بين قوات النظام ومسلحي جبهة النصرة في الجيب الشمالي من مخيم اليرموك جنوب دمشق.

وأوضحت الوكالة أنه من المقرر أن تنقل الحافلات 1500 من بلدتي كفريا والفوعة ضمن المرحلة الأولى للاتفاق باتجاه معبر “العيس” في ريف حلب الجنوبي، ومن ثم باتجاه مركز جبرين للإقامة المؤقتة على الأطراف الشرقية لمدينة حلب. وأشارت مصادر محلية إلى دخول 20 حافلة صباح الإثنين إلى البلدتين لتجلي نحو 1200 شخص، في المرحلة الأولى بالتوازي مع دخول حوالي 15 حافلة إلى مخيم اليرموك ويلدا جنوب دمشق لترحيل المقاتلين عنهما. وينص الاتفاق على إخلاء نحو خمسة آلاف شخص من كفريا والفوعة، إضافة إلى إطلاق سراح موقوفين لدى جبهة النصرة، وعددهم 85 من قرية اشتبرق في ريف جسر الشغور كانت الجبهة اعتقلتهم في عام 2015 أثناء سيطرتها على كامل ريف إدلب في ذاك العام.
كما نصّت بنود الاتفاق على عدم دخول عناصر “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بقيادة أحمد جبريل إلى مخيم اليرموك، وأن تُسلم إدارة المخيم إلى منظمة التحرير الفلسطينية كجهة مستقلة محايدة. وفي السياق نفسه، ذكرت وكالة “سانا” أن وحدة من قوات النظام قامت منذ صباح أمس الإثنين بتحضير الممر المخصص لدخول الحافلات إلى مخيم اليرموك لإخراج مقاتلي جبهة النصرة، وذلك بإزالة السواتر الترابية التي تغلق مداخل الشوارع والأحياء السكنية على أطراف المخيم.
ويأتي الاتفاق الجديد مع جبهة النصرة في سياق عمليات تهجير معلنة على أسس طائفية يتبعها النظام والإيرانيون منذ سنوات عدة، وتصاعدت أخيراً حيث تم إجلاء آلاف المدنيين من ريف دمشق، خصوصاً من الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، ومن منطقة القلمون الشرقي شمال شرقي العاصمة. لكن اتفاق اليرموك والبلدتين المثال الصارخ على مساعي النظام لإعادة هندسة مناطق سيطرته ديمغرافياً في سياق استراتيجية أعلن رئيس النظام بشار الأسد عنها سابقاً، هدفها خلق “مجتمع متجانس” يوالي النظام ولا يدفع باتجاه تغيير سياسي، وهو ما يضمن للأسد البقاء في السلطة.
وكان جرى في إبريل/ نيسان 2017 اتفاق شبيه سمي بـ “اتفاق المدن الأربع” نص على إخراج 3800 شخص-بينهم مقاتلون من المعارضة المسلحة- من وادي بردى شمال غربي العاصمة دمشق (مضايا الزبداني)، باتجاه إدلب، مقابل خروج 8000 شخص، بينهم مسلحون طائفيون من كفريا والفوعة باتجاه حلب.
واعتبرت المعارضة السورية حينها، اتفاق المدن الأربع تهجيراً قسرياً، وتغييراً ديموغرافياً، ووجهت مذكرة قانونية في هذا الخصوص للأمين العام للأمم المتحدة، والدول الخمس دائمة العضوية. ولكن الأمم المتحدة عاجزة عن إيقاف مساعي النظام وحلفائه في تهجير السوريين على أسس طائفية.
ويأتي الاتفاق الجديد ليشكل إقراراً من إيران بعدم قدرتها على الوصول إلى بلدتي كفريا والفوعة من خلال ميليشيات طائفية تتمركز في ريف حلب الجنوبي، وحاولت مراراً فك الحصار عن البلدتين لتحقيق نصر إعلامي، وفشلت أمام تصدي فصائل المعارضة لها.

وتبقى في الشمال السوري بلدتان شيعيتان هما نبّل والزهراء شمال مدينة حلب. ووجدت طهران بالظرف المستجد في مخيم اليرموك فرصة للمضي في خطة إخلاء سوريين شيعة من الشمال الغربي إلى مناطق النظام كي تغلق هذا الملف وتعيد توطين هؤلاء في المناطق التي تم تهجير سكانها (السنة) منها، إذ من المتوقع نقل أهالي كفريا والفوعة إلى جنوب دمشق في مرحلة لاحقة. وبموجب الاتفاق الجديد، يخلي 150 من مسلحي جبهة النصرة منطقة سيطرتهم في الجزء الشمالي من مخيم اليرموك، والبالغة نحو 15 في المائة من مساحة المخيم، فيما بقي مسلحو تنظيم “داعش” في القسم الجنوبي الذي تمعن قوات النظام في تدميره كي تمنع عودة نحو 250 ألف فلسطيني كانوا يسكنون في هذا المخيم الذي أنشئ في خمسينيات القرن الفائت للاجئين الفلسطينيين إلى سورية بعد نكبة عام 1948. ومن المرجح أن تواصل قوات النظام ومليشيات فلسطينية تابعة لها الضغط العسكري على مسلحي تنظيم داعش في حيي مخيم اليرموك والحجر الأسود من أجل دفع هؤلاء المسلحين إلى قبول الانتقال إلى البادية السورية، حيث لا يزال التنظيم ناشطاً فيها، أو التعرض للإبادة مع آلاف المدنيين العالقين الذين باتوا إما قتلى تحت الأنقاض، أو ينتظرون الموت في أية لحظة.

كما من المتوقع البدء في تنفيذ اتفاق توصل إليه الجانب الروسي مع فصائل المعارضة السورية، في بلدات جنوب دمشق (ببيلا، بيت سحم، ويلدا)، يوم السبت الماضي، ينص على إخراج رافضي إتمام “المصالحة” مع عوائلهم بسلاحهم الفردي، وبضمان روسيا، إلى الشمال السوري على أن “تبدأ عملية الخروج بعد تأمين جبهات المنطقة”.
ويمكن، بحسب بنود الاتفاق، الراغبين في البقاء، تسليم سلاحهم إلى الشرطة العسكرية الروسية، وإكمال التسوية مع قوات النظام، على أن تقع مسؤولية حماية البلدات الثلاث على الشرطة العسكرية الروسية. كما “يلتزم النظام بتقديم جميع أشكال الدعم الإنساني للمتبقين في البلدات، وتأمين العودة السريعة لمؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية والطبية والتعليمية”. وقضى الاتفاق بمنح تأجيل لمدة ستة أشهر للمتخلفين عن الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، و”يمكّن من قاموا بتسوية وضعهم من التطوّع”.
ولطالما كان الجنوب الدمشقي مصدر قلق للنظام، إذ بدأ في عام 2012 الخروج عن سيطرته ابتداء من مدينة داريا في جنوب غربي دمشق، مروراً بكفرسوسة والقدم والتضامن والحجر الأسود ومخيم اليرموك، وصولاً إلى بلدات ببيلا وبيت سحم، ويلدا. وتعرض الجنوب الدمشقي لحصار خانق في عام 2013، ما تسبب بكوارث إنسانية؛ إذ قضى في بداية عام 2014 مدنيون جوعاً وبرداً في حوادث لا تزال حاضرة في ذاكرة السوريين. وتم تشريد عشرات آلاف المدنيين من الجنوب الدمشقي الذي يضم لاجئين فلسطينيين بات أغلبهم إما نازحين داخل سورية أو لاجئين في دول الجوار وأوروبا. كما يضم جنوب دمشق عشرات آلاف السوريين الذين نزحوا من بلدات وقرى الجولان السوري، عقب احتلاله من قبل الجيش الإسرائيلي في عام 1967.