تمكنت قوات النظام وحشد المليشيات الشيعية، بقيادة ضباط إيرانيين وروس، من الوصول إلى بلدتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي، مساء الأربعاء. وجاء التقدم بعد عملية عسكرية استمرت لثلاثة أيام متواصلة، أنهت حصاراً شكلياً للمعارضة المسلحة كان مفروضاً على البلدتين اللتين يقطنهما موالون للنظام من الطائفة الشيعية.

نبل والزهراء لم تكونا محاصرتين فعلياً، ولم تصنفا كمناطق محاصرة وفقاً للأمم المتحدة، إذ تربطهما طرق إمداد شرقاً مع “قوات سوريا الديموقراطية” في منطقة عفرين، والتي تمثل “وحدات حماية الشعب” الكردية أهم مكوناتها.

وتقدمت المليشيات المقاتلة مع النظام، على ثلاث مراحل. وسيطرت في المرحلتين الأولى والثانية منها، خلال 48 ساعة، على قرى وبلدات دوير الزيتون وتل جبين ومعرستة الجهاد وحردتنين. وفي المرحلة الثالثة شهدت المنطقة أعنف المعارك على الإطلاق، حيث شنت المليشيات هجوماً متزامناً على مواقع المعارضة؛ من جهة الغرب تقدمت المليشيات المتمركزة في بلدتي نبل والزهراء نحو البساتين الواقعة إلى الشرق من الطريق الدولي حلب-غازي عينتاب، بعدما دمرت دفاعات المعارضة وخطوطها الأولى. ومن الشرق تابعت القوات المقتحمة تقدمها غرباً باتجاه بلدة معرستة الخان والتقى الطرفان في البساتين غربي معرستة، والتي تمتد على مسافة ثلاثة كيلومترات.

وبذلت المعارضة المسلحة كل طاقاتها للحؤول دون سقوط بلدة معرستة، باعتبارها الأمل الوحيد للمعارضة لشن هجومها المعاكس لاسترجاع ما خسرته، ولمنع وصول مقاتلي المليشيات إلى البلدتين وقطع الطريق إلى ريف حلب الشمالي بشكل نهائي. ودفعت المعارضة لذلك بأرتال ضخمة من التعزيزات المدرعة، والألاف من مقاتليها، وتمكنت مرات متعددة من استعادة السيطرة على معرستة، وقتلت أكثر من خمسين عنصراً لقوات النظام والمليشيات، ودمرت أربع مدرعات بصواريخ مضادة للدروع “تاو”. لكنها في النهاية فشلت أمام تصعيد القوات المهاجمة الذي كان مضاعفاً خلال الساعات الأخيرة جواً وبراً، بحيث أصبح بقاء المعارضة في مواقعها أمراً مستحيلاً.

وما كانت المليشيات لتتقدم لولا الدعم الجوي الروسي. ونفذت المقاتلات الروسية، الأربعاء وحده، أكثر من 150 غارة جوية بالصواريخ الفراغية والقنابل العنقودية على منطقة المعركة والقرى والبلدات القريبة. وطالت 50 غارة على الأقل الخطوط الأولى للمعارضة في بلدة معرستة، والبساتين المحيطة. ومعظم الغارات كان بالقنابل العنقودية التي تسببت بمقتل وجرح العشرات من مقاتلي المعارضة. كما قُصفت مواقع المعارضة في معرستة بوابل من القذائف المدفعية والصاروخية من أنواع “فيل” و”غراد” و”طوشكا” عدا عن الراجمات.

المتحدث باسم “الجبهة الشامية” العقيد محمد الأحمد، أكد لـ”المدن” أن قوات النظام والمليشيات لم تضطر أبداً لخوض حرب شوارع ضد قوات المعارضة في القرى والبلدات المستهدفة في ريف حلب الشمالي، طيلة أيام الحملة العسكرية. ولم يشتبك عناصر المليشيات الشيعية وجهاً لوجه مع مقاتلي المعارضة، إلا في حالات نادرة. فقد عوّلت قواتها بشكل كبير على التمهيد الناري الكثيف الذي حول المنطقة بأكملها إلى كتلة لهب مشتعلة، دمرت البشر والحجر.

الأحمد أشار إلى أنه لم يكن في الإمكان مواجهة هذا الكم الهائل من النيران المعادية، ما أجبر المعارضة على الانسحاب من مواقعها، مفسحة المجال للقوات المعادية أن تلتقي وتصل إلى بلدتي نبل والزهراء، عبر طريق عسكري يمر من البساتين المكشوفة. وأشار العقيد الأحمد إلى أن النظام وحلفاءه استخدموا مختلف أنواع القذائف الصاروخية والمدفعية والقنابل العنقودية، بكميات هائلة، في الوقت الذي لا تمتلك فيه المعارضة إلا عدداً محدوداً من صواريخ “التاو” مضادة للدروع والدبابات، وقواعد صواريخ “غراد” التي كانت صيداً سهلاً للمقاتلات الحربية الروسية والطائرات بدون طيار التي لم تفارق الأجواء على مدى الأيام الثلاثة السابقة.

وأوضح العقيد الأحمد، أن المعركة لم تنتهِ بعد، فروسيا لن تتوقف عند هذا الحد من التقدم، وستسعى إلى تأمين الطريق نحو بلدتي نبل والزهراء الذي شقته قوات النظام والمليشيات عبر الأراضي الزراعية، وذلك من خلال التوسع على الجبهات الطرفية شمالاً وجنوباً. وهذه التطورات المتوقعة تفرض على المعارضة تجهيز نفسها للحفاظ على مواقعها والتفكير بشن هجمات معاكسة تسترجع من خلالها المواقع التي خسرتها وكسب الوقت فالقوات المعادية لم تتمركز وتتمترس بشكل جدي بعد ولا يزال الأمر ممكناً.

وناشد العقيد الأحمد، أصدقاء المعارضة، وعلى رأسهم تركيا، التي بدت متفرجة إزاء التطورات الأخيرة في حلب بالقرب من حدودها الجنوبية، ودعا كل الفصائل المقاتلة في الشمال السوري بشكل عام أن تأخذ على عاتقها دعم المعارضة الحلبية في أزمتها معتبراً أن التقدم الأخير للنظام سيكون وبالاً يؤثر على كامل الجبهات في الشمال والوسط السوري في حمص وحماة وإدلب.

وأخيراً، تمكنت قوات النظام مدعومة بالمليشيات من الوصول إلى أهم معاقلهما في الشمال الحلبي، بعد ثلاث سنوات من قطع الطريق إليهما من قبل المعارضة. ولم تكن قوات النظام لتحقق هدفها، لولا دخول روسيا وإيران بشكل فعلي في العمليات القتالية، وقيادتهما المباشرة للمعارك على الأرض، بحيث أًصبح فارق القوة بين الطرفين كبيراً. المعارضة وجدت نفسها هذه المرة في مواجهة قوى كبرى لديها من الأسلحة النوعية ما يفوق قدراتها الدفاعية المتواضعة أصلاً في ظل انحسار دعمها بالذخيرة والعتاد من قبل من يدعون صداقتها.

وحقق النظام جملة من الأهداف بعد وصوله إلى معاقله شمالاً، ولعل أبرزها فتح خط إمداد بري إلى بلدتي نبّل والزهراء، والاستفادة من الموقعين الاستراتيجيين بالقرب من الحدود التركية وجعلهما قاعدة انطلاق جديدة لتنفيذ المزيد من الهجمات والأهداف. كما توفر له السيطرة على المنطقة، فصل ريف حلب الشمالي عن مناطق سيطرة المعارضة في مدينة حلب، وتقطيع أوصال المعارضة. وبالتالي فصل الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب وضواحيها الشمالية، عن شريان إمدادها الآتي من ريف حلب الشمالي وتركيا.

كما سيساعد التقدم الأخير للنظام في ريف حلب الشمالي، في قطع طريق المعارضة الذي يصل بين محافظة إدلب وغربي حلب وريف حماة الشمالي، وهو يصلها من الشرق بمناطق سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، أي خط امداد المعارضة بالمحروقات والمواد النفطية، من مناطق التنظيم الذي يسيطر على المكامن النفطية شرقي البلاد.

وليس لدى المعارضة أي خيار، سوى استعادة السيطرة على المواقع التي خسرتها، وإعادة فتح طريق امدادها من جديد، وإلا فهي بانتظار المزيد من الضغط البري والجوي من قبل النظام والمليشيات للتمدد أكثر، وحصارها، ومن ثم ترحيلها عن مناطق سيطرتها باتفاقات وصفقات تجويع.

ولا يزال الوقت مبكراً للقول إن المعارضة قد حوصرت بشكل كلي في حلب، فالطريق باتجاه ريفها الغربي وشمالي إدلب مازال مفتوحاً، ويصل مناطق سيطرتها في أحياء حلب الشرقية والضواحي الشمالية بتركيا عبر طريق الكاستيلو. وربما سيكون هذا المعبر المتبقي هو الهدف القادم لروسيا وإيران. أما المناطق الشمالية التي تسيطر عليها المعارضة في مارع وإعزاز وتل رفعت فهي أصبحت أشبه بصندوق مفتوح على تركيا، ومغلق بقوى معادية من ثلاث جهات: “وحدات الحماية” الكردية في الغرب، وتنظيم “الدولة الإسلامية” شرقاً، ومن الجنوب تمركزت قوات النظام والمليشيات الشيعية. ولم يتبقَ للمعارضة في أعزاز ومارع وتل رفعت من مخرج سوى الحدود التركية، والتي لا تزال مغلقة أمام النازحين من مناطق القتال.

خالد الخطيب : المدن