حازم الامين الحياة ٢٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٥

على العالم أن يختار في حربه على «داعش» بين تنازل أمني وتنازلٍ أخلاقي! هذا على الأقل ما تعرضه عليه موسكو عقب هجمات باريس الدامية. ويتمثل التنازل الأمني في جدولة الحرب وتدرجها، بدءاً من إسقاط النظام في سورية وصولاً إلى القضاء على «داعش»، والتنازل هنا يتمثل في إطالة أمد الحرب والتعامل مع المزيد من تعقيداتها. أما التنازل الأخلاقي فيتمثل في التعامل مع بشار الأسد كأمر واقع، على أن يترافق ذلك مع انقضاض دولي على «داعش» يُقدم عليه تحالف يضم إلى موسكو وواشنطن وباريس، طهران و «حزب الله» والنظام في سورية.

يمـــيل كثيرون إلى القول إن العالم سيختـــار التـــنازل الأخـــلاقـــي، وأن بشار الأسد لم يعد أولوية، وأن بقاءه ضعيفاً يؤدي وظائف ما زال العالم في حاجة إليها. أمن إسرائيل ومصالح موسكو ونفوذ إيران المشرقي، هذه كلها يؤمنها نظام ضعيف في سورية ما بعد «داعش».

أما الغرب فيمكنه أن يتعايش مع بشار على نحو ما تعايش مع صدام حسين ما بين 1990 و2003! وهذه مقولة سائدة ويتم الترويج لها في الكثير من الأروقة.

لكن بغض النظر عن قدرة أصحاب هذه الفكرة على تسويقها، وهم وجدوا في أحداث باريس قوة دفع لنظريتهم، لا بد من الإشارة إلى أن الخوض فيها لا ينطوي على تنازل أخلاقي فقط، بل ثمة عقد واقعية تحول دونها.

ما هي القوة البرية التي ستملأ الفراغ الذي سيخلفه «داعش» بعــــد دحره؟ ونحن هنا نتحدث عن أكثـــــرـ من ثلث مساحة سورية. النظام السوري؟ مـــــن السذاجـــة طبعاً الاعتقاد بذلك: ذاك أن النظام وحلفاءه الإيرانيين واللبنانيين كانت هزائمهم الميدانية في الكثير من المواقع قد أخذت شكل انكفاءات غير ناتجة عن هزائم عسكرية، إنما عن نقص بشري وضعف في البنى العسكرية.

ثم إن هزيمة «داعش» من دون حليف سني محلي وإقليمي ستكون تأسيساً لشروط إعادة إنتاج «داعش» موازٍ، وبقاء بشار في السلطة يعني ذلك حرفياً. فلن يجد التحالف الدولي قوة سنية تقف إلى جانبه في حربه على «داعش» طالما كان عنوان هذه الحرب «بقاء بشار الأسد». ثم إن نصراً مذهبياً على «داعش» هو انتصار له، والحرب على «داعش» من دون السنة ستنطوي على عمق مذهبي يُدركه الغرب تماماً كما تُدركه موسكو وطهران، وهؤلاء كلهم اختبروا الفشل الكبير في العراق، وسيكون تكراره في سورية ضرباً من الغباء.

في سورية، لا تستطيع طهران أن تُكرر خبرتها العراقية المتمثلة في أن «داعش» مشكلة السنة العراقيين، وأن تنكفئ بقواها العراقية إلى حدود المناطق الشيعية. الانكفاء عن المناطق السنية في سورية انكفاء عن سورية، وجبال العلويين لا تكفي لبناء دولة، فيما مدن الساحل لا يتمتع فيها العلويون بغلبة، ودمشق، معقل النظام، محاصرة من ريفها، ومن جنوبها وغربها.

وموسكو بدورها تُدرك أن حرباً جوية على «داعش» من دون قوة محلية لن تكون أكثر من تكرارٍ للحرب الجوية التي تخوضها الولايات المتحدة منذ نحو سنتين على «داعش» من دون نتائج فعلية.

سيكون البحث عن تسوية في سورية تُسهل القضاء على «داعش» من دون البحث في مصير بشار الأسد غير مجدٍ، والأرجح أن هذه قناعة الجميع، ويبقى السؤال في كيفية مغادرة بشار وبقاء النظام، بما يؤمن لجميع القوى الإقليمية بما فيها طهران مصالحها؟

أما الصعوبة الثانية، فتتمثل أيضاً في الشريك المعارض. ما هي القوة السورية المعارضة التي ستُجري التسوية؟ ذاك أن التسوية من دون بشار تقتضي شريكاً، وتقتضي أيضاً تنازلات موازية. معارضة منسجمة تقبل ببقاء النظام، مع ما يجره ذلك من بقاء لرموز منه. ثم إن قطاعات واسعة من المعارضة المسلحة لن تجد مكاناً لها في هذه التسوية، كـ «جيش الفتح» مثلاً المنضوية فيه «جبهة النصرة» و «أحرار الشام». وهذه القوى ستكون جزءاً من هموم الشريك المعارض، وجزءاً من مهماته الواقعية. فالنظام المُحَافَظ عليه لن يقوى على تحديد قواه وأطره الجديدة من دون مده بشرعية جديدة مكتسبة من قوى معارضة طرحت على نفسها تسوية لن تكون سهلة بأي حال من الأحوال.

ولعل ما هو مطروح على السوريين في لحظة التسوية، لم يسبق أن طُرح على مجتمع مشرقي مـــن مجـــتمعات الحروب الأهلية. معادلة التسوية تقتضي من أهل النظام أن يتحولوا إلى شركاء فيه من دون رأسهم، ومن معارضي النظام أن يقبلوا به وأن يندمجوا في مؤسساته، مع ما يعني ذلك من ابتلاع لخُطب النصر والحق والغلبة.

صعوبات هائلة تنتظر التسوية السورية، لكن لا سبيل للانتصار على «داعش» من دونها. ولا يبدو أن عامل الوقت مساعد على هذا الصعيد، ولهذا ستتكشف الأيام والأسابيع القريبة عن جهد دولي حقيقي في هذا الاتجاه. ولعل مسارعة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى تحديد أسابيع لمباشرة المفاوضات الجدية في شأن سورية ليست المؤشر الوحيد على ذلك، فمسارعة الرياض للإعلان عن استضافة أطراف المعارضة السياسية لتشكيل وفد منسجم إلى فيينا مؤشر آخر، وربما كانت هدنة الغوطة الشرقية في دمشق تمريناً على هُدن موازية ومُرافقة لعملية المفاوضة.

الحديث عن أن القضاء على «داعش» تحول إلى أولوية غربية تتقدم الرغبة في البحث عن مستقبل النظام في سورية صحيح من دون شك، خصوصاً في ظل معادلة التنازل الأخلاقي في مقابـــل التنازل الأمني، فالغرب يُقدم أمنه على قيمه. لكن الذهاب إلى الحرب على «داعش» من دون أن تكون التسوية في سورية خطت خطوتها الأولى سيكون تكراراً لأخطاء حصلت في أفغانستان وفي العراق، ناهيك بأن المساهمة الغربية في الحرب هذه المرة لن تكون برية، وسيكون من الجنون تعويض المشاركة البرية بجيش النظام السوري وحلفائه في المذهب وفي الإقليم.

يبدو أن لدى السوريين الآن فرصة، وهذه لحظة التنازلات المؤلمة. أما القضاء على «داعش» فمن المرجح أن يكون مهمة تتعدى سورية.