كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

على الورق، أي في التخطيط المكشوف الذي تسمح به التكهنات المنطقية والتسريبات (المتعمدة، لأنها ليست سرّية تماماً!)؛ يبدو التدخل العسكري التركي الأخير في إدلب وكأنه، بالفعل، ترجمة ميدانية لمذكرة التفاهم حول خفض التصعيد في هذه المحافظة، والتي تمّ التوصل إليها خلال اجتماعات أستانة، العاصمة الكازاخية، في أيار (مايو) الماضي، بين روسيا وإيران وتركيا. المخطط المعلَن ينصّ على دخول أعداد محدودة من القوات البرية التركية (الأرقام، مع ذلك، تتحدث عن 300 إلى 500 عنصر!)، تضمن وقف إطلاق النار، وتسهيل أعمال الإغاثة الإنسانية، وإصلاح البنية التحتية، في مناطق سيطرة “المعارضة المسلحة”، أي “هيئة تحرير الشام” و”أحرار الشام” و”حركة نور الدين الزنكي” بصفة أساسية؛ وفي المقابل، ضمن مناطق سيطرة النظام و”حزب الله” والميليشيات الحليفة، تضمن روسيا وإيران تطبيق التهدئة.

ومن المعروف أنّ سلسلة من التفاهمات الروسية ـ التركية، حول سوريا ونظام بشار الأسد بصفة خاصة، كانت قد تواصلت واختمرت وتُرجمت على الأرض؛ وذلك منذ المصالحة بين موسكو وأنقرة في آب (أغسطس)، في أعقاب اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سانت بطرسبرغ، والذي أنهى تأزماً حاداً بين البلدين. لهذا فإنّ جوهر المقايضات الخافية بين روسيا وتركيا قد ينحصر في مقايضة ثنائية من الطراز التالي: إدلب تحت السيطرة التركية (بمعنى لجم الجهاديين، وتقييد حركتهم، وتجميد جغرافية انتشارهم، أو حتى قتالهم عبر الجيش التركي مباشرة، أو بالتعاون مع فصائل “الجيش الحر” السوري الحليفة لأنقرة)؛ مقابل عفرين (حيث تُطلق يد أنقرة، ويجري توسيع نطاق عمليات “درع الفرات”، بما يمكّن الجيش التركي من استكمال تقطيع أوصال “روجافا”، وبعثرة مناطق اتصال “وحدات الحماية الشعبية”، وقطع أيّ ربط جغرافي بين “كردستان الشمال” و”كردستان الغرب”…).

لكنّ هذه الحسابات، مثل كثير سواها في الواقع، قد لا تأتي على الشاكلة التي يطمح إليها رعاة مذكرة أستانة إجمالاً، لأسباب عديدة معقدة، بعضها جلي واضح لتوّه، وبعضها الآخر وليد مفاجآت طارئة وتبدّلات ليست في الحسبان المسبق. “هيئة تحرير الشام”، على سبيل المثال، قد تنحني مؤقتاً أمام عاصفة التوافق الروسي ـ التركي الراهنة؛ لكنها، إنْ فعلت، فلسوف تمارس الانحناء إلى حين فقط، إذْ أنّ مشاريع تحجيمها أو إضعافها أو استهدافها في نهاية المطاف، سوف تدفعها إلى خندق الخيارات القصوى، التي تحرص موسكو وأنقرة على تفادي ذهاب “الهيئة” إليها. أوّل تلك الخيارات قد يكون استدارة الجولاني إلى الخلف، وفتح معركة الساحل الكبرى عبر القتال البرّي أو القصف الصاروخي والمدفعي؛ وإشعال الجولة الأولى، والأخطر ربما، في “حرب أهلية” تكرر الحديث عنها، رغم أنها لم تقع فعلياً حتى الساعة.

كذلك فإنّ موسكو ليست “مرتاحة” تماماً، عسكرياً، على نحو يمكّنها من ضمان “خفض التصعيد”، أياً كانت تجلياته الميدانية الحقيقة، في منطقة معقدة رابعة؛ بعد ثلاث مناطق ليست أقلّ تعقيداً، في جنوب سوريا وشرق الغوطة وحمص الوسطى. وإذا كان لنبوءة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حول غرق موسكو في المستنقع السوري، أن تتحقق على أيّ نحو؛ فإنّ مآزق موسكو العسكرية، في ريف دير الزور ومحيط تدمر تحديداً، هي المؤشر الأوّل. ورغم انضواء تركيا في الحلف الأطلسي، وأنّ جيشها هو الثاني الأقوى ضمن صفوف الـ”ناتو”؛ فإنّ الافتراق التركي ـ الأمريكي الراهن حول سوريا، بصدد التعاون الأمريكي العسكري مع الكرد في المقام الأوّل، قد ينقلب إلى عقبة كأداء في وجه التوافق التركي ـ الروسي.

في غضون هذا كله، لم يتوقف الطيران الحربي الروسي، وطيران النظام، عن قصف إدلب ومحيطها، والتوحش في التصعيد… بدل خفضه!