انسحاب الجيش السوري من لبنان "ارشيف انترنت"

أحمد عيشة

ظهرت أولى المواقف المعارضة لسلوك النظام، بعد دخول قوات الجيش السوري إلى لبنان 1976، وسحقه للحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ابتداء باغتيال زعيمها الشهيد كمال جنبلاط (آذار 1976)، ثمّ حصاره للمخيمات وارتكابه مجزرة مخيم تل الزعتر في آب 1976، حيث أصدر وقتئذ الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي/ رياض الترك) بياناً دان فيه مواقف النظام السوري، وهو الموقف الذي شكّل بداية الافتراق الحقيقي عن مواقف النظام، بعد الموقف الذي اتخذه بعد الانشقاق من خلال عدم اشتراكه في الجبهة الوطنية التقدمية (النموذج المسخ) عن أساليب استبداد الديمقراطية الشعبية في أوروبا الشرقية، بخلاف حول نسب المشاركة ودوره فيها، وليس كموقف من الاستبداد.

تتالت الاحتجاجات تجاه النظام السوري من بعد ذلك، فكان موقف المحامين في مؤتمر اتحاد المحامين العرب الذي عقد في تونس (تشرين الثاني 1976)، حيث احتج المحامون السوريون على موت المحاميَين: طارق حيدري وعادل كيالي، اللذين قُتلا في المعتقل عقب احتجاجهما على موقف النظام من تدخله في لبنان.

في حزيران 1979، قام الضابط إبراهيم اليوسف بارتكاب مجزرة على أساس طائفي في مدرسة المدفعية بحق الطلاب المتطوعين، وكان معظمهم من الطائفة العلوية، وقد دان الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي تلك المجزرة، ووصفها بأنها مجزرة مدانة أخلاقياً وإنسانياً، لكنه حمّل النظام مسؤولية إيصال البلاد إلى هذا المستوى من العنف المضاد، من خلال ممارساته الطائفية وعدائيته للمجتمع.

اتخذت معظم النقابات موقفاً رافضاً للاستبداد وداعياً للتغيير وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق الحريات الديمقراطية

تصاعدت مواقف النقابات (الأطباء والمهندسون والمحامون)، مع بدايات الأحداث عام 1979، حيث اتخذت معظم النقابات موقفاً رافضاً للاستبداد وداعياً للتغيير وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق الحريات الديمقراطية، كما دعت إلى الإضراب ومارسته ولو لـ ساعات، وتعرضت نتيجة لذلك للاعتقالات والإهانات، وصولاً إلى القرار البائس في نيسان 1980، بحلّ جميع النقابات وتأسيس مكتب للنقابات المهنية في القيادة القطرية وإلحاقها به، حيث أعاد تشكيلها وفق قواعد الديمقراطية الشعبية الناظمة لعمل الجبهة الوطنية (51 في المئة للبعث والبقية لزبانيته).

ولا ننسى، في هذا المقام، مبادرةَ النظام -نتيجة تصاعد الضغوط عليه، لتأسيس لجنة تقصي الحقائق للقاء الفعاليات في البلاد، في محاولة للتخلص من الضغوط والتقاط الأنفاس لجولة قمع عارية، ونذكر اللقاء الشهير على مدرج جامعة دمشق مع الكتاب والصحفيين، ومنهم (ميشيل كيلو، ممدوح عدوان، عادل محمود، الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور)، حيث شكّل هذا اللقاء فضيحة كبرى للنظام، وقد سمَع فيه ما لا يمكن حتى أن يتوقعه، ونذكر صيحة ممدوح عدوان: “أنتم تكذبون حتى في درجات الحرارة”.

سُجل اللقاء على شريط كاسيت، وتداوله الشباب بكثافة رغم أنه كان كافياً ليعرض من يمتلكه أو يسمعه للاعتقال.

في تلك الأثناء، مع تكشف الوجه القبيح للنظام، كانت المناقشات جارية بين طيف واسع من الأحزاب والشخصيات اليسارية والقومية لتشكيل تكتل معارض، يسعى نحو التغيير الديمقراطي، وينتشل البلاد من حالة الاستبداد، ويفتح الطريق أمام تغيير حقيقي وسلمي وديمقراطي، وقد تُوجت تلك الجهود في نهاية 1979 بتأسيس التجمع الوطني الديمقراطي المؤلف من خمسة أحزاب هي: (الاتحاد الاشتراكي/ جمال الأتاسي، والحزب الشيوعي/ المكتب السياسي، وحزب العمال الثوري، والاشتراكيين العرب، والبعث الديمقراطي)، ومن باب الأمانة للتاريخ لم يكن التجمع مؤلفاً من جناحين يميني بقيادة الإخوان المسلمين، وآخر يساري قومي، كما كتب أحد العَلمنجيين التقدميين!

في نيسان 1980، أصدر التجمع الوطني الديمقراطي بياناً دعا فيه إلى إطلاق الحريات الديمقراطية، وإلغاء الأحكام العرفية، وانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للبلاد يرسخ الحياة الديمقراطية، وقد تعرّضت الأحزاب الموقعة على البيان لحملة اعتقالات وتصفيات، كان معظمها من نصيب الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي، كما لاقى إدانة عنيفة من الإخوان المسلمين في بيانهم الشهير المعنون بـ (عودوا إلى جحوركم أيها الشيوعيون)! وفي إثر ذلك طوق الجيش المدن الرئيسة، وبخاصة حلب، وقام بتفتيشها بيتاً بيتًا، وقد تعرض فيه سكانها لإهانات ونهب كبيرين.

ما سبق ذكره كان بغاية تبيان أمرين: الأول حالة التمرد الداخلية التي كانت تعصف بالبلاد ضد نظام الاستبداد، ومشاركة الكثير من الفعاليات فيها، وخاصة النقابات والكتاب والصحفيين والطلبة في الثانويات والجامعات، والثاني هو موقف الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي الذي كان داعياً ومؤيداً لتلك الاحتجاجات، ومؤسساً مع شركائه طريق التغيير الديمقراطي البعيد عن طرفي العنف (النظام والإخوان) مع تحميله المسؤولية عن العنف للنظام.

تعرض الحزب لحملة اعتقالات رهيبة وقدم شهداء فيها

بالطبع، تعرض الحزب لحملة اعتقالات رهيبة، وقدم شهداء فيها، وأولهم عبد الله الأقرع في فرع أمن الدولة/ حلب في نيسان 1980، لكن ثمة حملة أخرى رافقت حملة النظام، ما تزال بقاياها مستمرة حتى اليوم، أتت من أنصار الديمقراطية الشعبية/ الشيوعيين العُتق والجدد، تتهم هذا الحزب بعلاقةٍ ما مع الإخوان المسلمين، وصلت إلى حدّ التحالف، لم ينجُ أي رفيق في الحزب -أيّاً كان عمره الحزبي- من التعذيب بموجبها، وجوهر هذا الاتهام والعدائية بسيط جداً: عداء أنصار الديمقراطية الشعبية للخيار الديمقراطي الذي تبناه ذلك التيار، في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات: الديمقراطية التي لا يزال البعض منهم، رغم أنهم يعتاشون على هوامشها، يعدّونها لعبة برجوازية، أو وسيلة لإيصالهم وحدهم إلى السلطة، أما الحزب والتجمع فكان خيارهم واضحاً، كما ردده المرحوم إلياس مرقص، في تأبين ياسين الحافظ: “نحن مع الديمقراطية فقط، الديمقراطية الحاف”، تاركين لكم الديمقراطية الشعبية واستبدادها.

لا شك أن الوصول إلى حالة الأزمة في كل زمن، وبعد كل حالة لا تحقق أهدافها بعد أن تقضي على شرعية القديم، يفتح الباب أمام مراجعة للخروج منها، ولكنه ليس مبرراً أبداً لتلفيق أخبار وتزوير وقائع بغية تصديق وجهة نظره، لكن أنصار الديمقراطية الشعبية لم يخرجوا من خطابهم العتيق رغم حديثهم الممل عن الديمقراطية، وحاجتهم إلى الآخر ليس إلا لإلقاء اللوم عليه، بينما أصحاب الخيار الديمقراطي فيبحثون عنه للتشارك على قاعدة الاختلاف والتوافق السياسيين، بعيداً عن حالة الاستقطاب الأيديولوجي التي لن تفيد سوى قوى الاستبداد.

المصدر:

https://www.syria.tv/content/المعارضة-الديمقراطية-وقوى-الاستبداد-في-سورية