تعود اليوم القضية الكردية في وجدان أصحابها كمظلومية طالما تعرضت للتآمر والخذلان، وتعود إلى الواجهة أقوال «شاعرية» من نوع جملة محمود درويش «ليس للكردي إلا الريح»، بل إن أحد مسؤولي الصدارة في الإدارة الذاتية صرّح بعد هزيمة عفرين أنه ليس للكردي سوى الجبال!

هذا ليس غريباً على أية مظلومية، إذ تبـــدو قدَريّة أكثر منها سياسية، وتجد حلها تالياً في صراع مختلف نوعياً عن الصراع السياسي، وتجد تمثيلها الفكري في الأيديولوجيا وتنظيماتها لا في السياسة.

في المظلومية أيضاً، نغادر منطق الخصومة السياسية، فالعدو ليس خصماً نشتبك معه، هو في المؤدى الرمزي «إسرائيلنا». هكذا مثلاً يمكن الجزم بانعدام الفوارق إزاء القضية الكردية من قبل أية حكومة تركية، بما أن الميل الدائم للأتراك هو رفض الحقوق الكردية. كذلك هو الحال في العراق، فأكراد الإقليم جرّبوا حكم السُنّة وحكم الشيعة على التوالي، ولم يحصلوا على اعتراف بحقوقهم إلا في المرحلة الانتقالية بينهما، حينما كان القرار أميركياً.

من وجهة نظر ضيقة، ربما تعيد أحداث اليوم إلى الذاكرة الكردية ما حدث قبل مائة عام لجهة تقسيم المناطق الكردية وحرمان الأكراد من وطن قومي. إلا أن هذا التصور يغفل واقعاً مختلفاً، فالحدث الحالي في المشرق فجّرته الثورة السورية وبدء الحراك الشعبي في العراق، ومن ثم ما هو معلوم لجهة سطو داعش على الحدث، والتدخلات الدولية والإقليمية التي أخرجت السوريين والعراقيين من دائرة التأثير في ما بدأوه.

على الجانبين، السوري والعراقي، بدت الفرصة مواتية للأكراد كي يحققوا طموحات قديمة، أو كي يرتفع سقف الطموحات. الحرب الدولية على داعش كانت مناسبة لاصطفاف الأكراد في جهة المنتصرين، وفي الأصل لم تكن هناك أوهام مفادها بقاء داعش أو تمدده كما يزعم أنصاره.

في الجانب العراقي سيطرت قيادة إقليم كردستان على المناطق المتنازع عليها مع سلطة بغداد، وفي الجانب السوري سيطرت سلطة الأمر الواقع الكردية على معظم الشمال السوري، وبدأت أصوات القيادات في جبل قنديل تروج لاحتمال أن يكون الشمال السوري نواة دولة كردية في سورية وتركيا.

في موجة الصعود الكردي، غابت الحسابات السياسية، مثلما توارى التفكير في ما هو أقرب للعدالة. فعلى المقلب العراقي لم يكن محسوباً في شكل جيد رد الفعل حول استفتاء يضم المناطق المتنازع عليها، رُفع شعار «كركوك قدسنا»، بينما كان يمكن لحسابات براغماتية أفضل عدم اتخاذ إجراءات أحادية في تلك المناطق، والمطالبة بتحكيم دولي في شأنها، على الأقل لحماية وتحصين الاستفتاء في باقي الإقليم.

وعلى المقلب السوري سرعان ما انجرت غالبية ساحقة من الناشطين الأكراد إما إلى تبني روايات تاريخية تنسب الشمال السوري كله إلى الأكراد، أو إلى الصمت المطبق على نهج الهيمنة الذي تمارسه سلطة الأمر الواقع، أو إنكار الانتهاكات التي مارستها في مدن وبلدات عربية، مع أن الأصوات الكردية نفسها كانت أعلى لجهة استنكار انتهاكات السلطة الكردية في حق معارضيها الأكراد، بمعنى عدم الإقرار بأن من لا يتورع عن اضطهاد معارضيه الأكراد لن يتورع عما هو أكثر من ذلك إزاء من يصنّفهم أعداء قوميين.

أيضاً في المقلب السوري، عاندت سلطة الأمر الواقع ما تعرفه بخبرتها عن تنظيم الأسد، فالأخير كان يدعمها ما دامت تعمل وفق مصالحه، ويضحي بها عندما يقتضي الأمر. التحالف مع سلطة الأسد فيه من قصر النظر ما يوازي تحالف المعارضة السورية مع سلطة أردوغان، وقد شهدنا كيف ضحى أردوغان بمصالح المعارضة لأجل ما يراه مصلحة لبلاده أو لحساب طموحه الشخصي.

الحديث عن أخطاء المعارضة لا يفي هذا التحالف حقه، لأنه سابق على الثورة بتقلباته، ولأنه استؤنف مع مطلعها وكانت أولى غاياته وقف الحراك الكردي المضاد للأسد.

في خلاصة السنوات الأخيرة، تقدم إقليم كردستان حتى بدا قريباً من حلم الاستقلال، ثم انكسر وكأنه عاد إلى أسوأ مما كان عليه. تقدمت السلطة الكردية في سورية، إلا أنها انكسرت في أهم معاقلها، عفرين، وكان منطقياً وعادلاً لو حدث ذلك في مناطق عربية يُنظر فيها إليها كقوة احتلال. ومع انكسار الجناحين لم يكن الوضع في تركيا أحسن حالاً، فحزب الشعوب تقدّم لينال تمثيلاً برلمانياً غير مسبوق للأكراد، إلا أنه تعرض للإقصاء بالتزامن مع الحرب بين حزب العمال والحكم التركي على أكثر من جبهة.

الخسائر الظاهرة ينبغي ألا تحجب في المقابل وقائع لها أهمية موازية، فإقليم كردستان في أسوأ الحالات لن يعود إلى السلطة المركزية، والإجراءات العقابية المسنودة اليوم بتفاهمات إقليمية ودولية عرضة للتغيير مع تغير المناخ الخارجي. يجب ألا ننسى أن استفتاء الإقليم وجد مناصرين عرباً ربما كان من الصعب تخيل وجودهم قبل سنوات، قد يُقال أن سبب المناصرة هو الموقف من إيران، لم لا؟ أليست هذه هي السياسة؟

في سورية، سيكون من الصعب تجاوز القضية الكردية على النحو الذي كان يحدث منذ الاستقلال، فالقضية الكردية منذ بدء الثورة صارت ضمن النقاش العام، ووجدت مناصرين عرباً لم يكونوا يوماً يكترثون بها. هناك أيضاً في القائمة من هم مع القضية الكردية وضد وحدات الحماية لأسباب تتعلق بتحالفها مع الأسد، وهذا خلاف لا يمس جوهر القضية بل يُحسب للأخيرة في المحصلة النهائية. بالطبع قد يكون التقدم على هذا الصعيد أقل مما يطمح إليه الأكراد، لكن ينبغي عدم نسيان الوضع المأساوي للسوريين جميعاً، ما يجعلهم أكثر انشغالاً بما يرونه قضيتهم الأساسية.

وفي تركيا هناك نكوص عن التجربة الديموقراطية ككل، لصالح الطموح الأردوغاني. مع ذلك يصعب تصور نكوص القضية الكردية إلى المرحلة السابقة على حكم تورغوت أوزال، أي حين كانت من المحرمات، وتقدّمُ حزب الشعوب ونيله أصواتاً ضمن الوسط التركي يعبّر عن تخطي الحاجز السابق إلى غير رجعة.

ما يمكن ملاحظته ضمن هذه المسارات أن التقــــدم الكردي لم يكن بمعزل عن المحيط، ففـــي العراق تزامن مع إطاحة صدام، وفي تركيا مع إطاحة العسكر، وفي سورية مع الثورة التي أرغمت بشار على تسليم تلك المناطق لوحدات الحماية، وقبلها عندما هتف متظاهرون سوريون بـ «آزادي» التي تعني الحرية باللغة الكردية. حالياً، مع انكسار الجناحين اللذين حلّقا أعلى من الواقع، يجدر الانتباه إلى الأقدام التي تقدّمت بخطى أبطأ، إنما أشد رسوخاً.