دبي – هاني نسيرة
تهيمن أفكار «الصراع والحرب» على مخيال الأصوليات المعاصرة، وعلى جماعات التشدد الديني والآيديولوجي المنغلق دائماً؛ فهو رافد مقاومتها وممانعتها، كما أنه مبرر حربها وعدائها.
وعلى أساس تمثيلها للحق وتصورها له تتشكل مشاعرها ولاء وبراء وتفكيرا وهجرة. أو عزلة شعورية وفكرية – حسب تعابير سيد قطب – أسيرة صراع أبدي وسرمدي لا بداية ولا نهاية له. تصور هذا الصراع سنة وجودية وكونية، لا تستقيم الطبيعة ولا العالم من دونها، لحرب مستعرة ومستمرة بين الحق والباطل والخير والشر لم تتوقف ولن تتوقف إلا بنهاية العالم نفسه، رغم أن التدافع القرآني الذي تستند إليها لم يكن إلا وسيلة وأداة لعدم «فساد الأرض» واستقرار التعايش المتنوع «مساجد وبيع وصلوات»… وليست سنة مؤبدة لا تغادرها هواجس الحرب والصراع.

لقد أزاح الانحباس الأصولي في دوائر الكراهية والصراع مفاهيم وسلوكيات كثيرة عن الفكرة والجماعات الأصولية. ولم يكن أول هذه المفاهيم والسلوكيات القدرة على التعايش مع المختلف، ولم يكن آخرها العبوس والعجز عن الفرح والترفيه، الذي يظل مرتبطا بمجال الحرب، رغم أن أبوابه وسلوكياته كثيرة في تاريخنا وتراثنا. ونشير هنا لظاهرة عرفت عن بعض الأقدمين هي ظاهرة الإحماض عند الصحابة والتابعين والفقهاء؛ بحثا عن الإمتاع والمؤانسة غاية في ذاتها.
نلح هنا على فرضية قطع جماعات التطرف والأصولية الراهنة مع التراث وأنها شذوذ غير متصل به. فهي لم تستوعب منظومته ولا اتساعها وتنوعها، ولا تاريخيتها وما تكرر فيما هو ألصق بما يسمى «الإسلام السياسي» من تراث الفكر والنظرية السياسية في الإسلام، وتاريخ الآداب السلطانية. ولم تلحظ تأثر هذا التراث بزمنيته، وبتراث الأمم المفتوحة للمسلمين، فغلب على الأدب والسلوك السياسي الإسلامي التراث الفارسي، وبخاصة عهد أردشير، الذي أدمنه الكثير من الخلفاء وكان مقررا على أبنائهم من الأمراء، منذ عهد هشام بن عبد الملك الأموي، بالخصوص.
كذلك، تجاهلت جماعات الأصولية الراهنة، مدخل ومنطلق الاستقرار الذي سيطر على كل دول المسلمين وسلطناتهم وممالكهم بطول العالم الإسلامي وعرضه، فكانت الهدن ومعاهدات الصلح والنفور من الحرب، ووقف الفتوحات بعد عصر بني أمية، الذين صدروا خلافاتهم الداخلية، مع سائر أبناء الصحابة، إلى حروب خارجية شاغلة للأمة، في أوائل عهدهم… حتى توقفت من جديد حين امتدت الخلافات داخل أبناء الأسرة ذاتها وبلغت أوجها في عهد الوليد بن يزيد الذي قتله آخرهم مروان بن محمد سنة 126 هجرية.
هذا التاريخ وإن سماه البعض «الفتن»، إلا أنه كان التاريخ. وكانت قوانين العصبية والتغلب والشوكة- حسب تعبيرات ابن خلدون وابن تيمية وغيرهم– هي التي تحركه… وليست «يوتوبيا» من ينكرون التاريخ ويعادونه من جماعات الأصولية الراهنة، التي لم تكن منذ تأسيس باكورتها مع جماعة الإخوان المسلمين إلا فورة ثكلى بعد سقوط خلافة العثمانيين، التي لم تحمِ عربا ولا عجما مسلمين من احتلال بلدانهم قبل سقوطها بعقود.
كما قبل بعض خلفاء المسلمين في القرن الأول الهجري بدفع الجزية للرومان حين تغلب الأخيرون عليهم، وقبل الراشدون من قبيلة قوية مثل تغلب، التي كانت تدين بالمسيحية، ألا تدفع الجزية رغم أن الأخيرة كانت قانونا عالميا وإمبراطوريا معروفا عند المسلمين وغيرهم قبلها! والسبب أنها قبيلة مشهورة اشتهرت بالقوة والمنعة وفوارسها من الأمراء والشعراء… حتى قالت فيها العرب من الأثر «لولا الإسلام لأكلت تغلب الناس»؛ لِما عرف عن جلادتها وشدتها في الحرب والمجابهة وأخذ الثأر.
يعيش الأصوليون دائما فيما يصدمنا من خطابهم من الغيبة الزمنية والمكانية. فهم ليسوا هنا وليسوا معنا الآن، بل محبوسون في سجن إيمانهم بالنصر، وليست هزائمهم إلا انتكاسة مؤقتة. وليست نتائج ممارساتهم الوخيمة على المسلمين أو غير المسلمين أو على العالمين- كل البشر- وهو التعبير الأثير والرائج في النص الإسلامي. وعلى صورة الإسلام لديهم محل اعتبار في شيء. فهم يديرون حربهم وللحرب أخطاء. وهم الأمة التي اختزلت في طائفتهم المنصورة وفرقتهم الناجية، وليس سواهم غير قاعدين أو خارجين معادين؛ فالولاء والبراء يظلان منحبسا في عناصرهما وأنصارهما حتى عن سواهم من رفقائهم السابقين.
وفي هذا السياق، لا يتصور التاريخ إلا محددا سلفا، وسلسلة من الصراعات والمؤامرات الدائمة والمتوقعة في هذا الصراع الأبدي. ولا مكان في هذا السياق لمعايير الإنجاز والحضارة إلا في باب التفاضل بين أطراف الصراع، لكنه ليس هدفا في ذاته أو معيار لتقدم أو لأفضلية طرف على طرف. بل لا حاجة إلى التثاقف بين الطرفين في منظومة هذه الجماعات المتشددة؛ إذ إن الاكتفاء النظري والمرجعي هو الحكم. ولم يفرط الكتاب شيئا ولا يعني أخذ الحديث أو القديم عن الآخر العدو والمتآمر- أبدا- غير السلاح والأدوات إلا مضاهاة للكفار، وكفرا بواحا وخروجا صراحا يستوجب الحرب والبراء والمعاداة.
في السياق نفسه، لا يعرف «الحق» في المخيال الأصولي والمتطرف التعدد والتنوع، بل يتشخصن واحدا أحاديا في شخص أمير التنظيم وهوية التنظيم. وليس الخلاف معه، أو الاختلاف عنه، كذلك فردا أو جماعة إلا خروجا وانحراف منهج وردة نفاق تستوجب القتل والقتال أو المفاصلة والطرد في أقل الأحوال. وليس للتنظيم الأصولي المنغلق مرجعية أو قانون للقبول أو التعايش، إلا السمع والطاعة، أما الخروج عليها فيعني القتل والقتال. وهنا لم يكن مستغربا اتساع حدة الخلاف والصراعات والحروب البينية بين تنظيمات التطرف والأصولية، رغم رفعها الشعارات نفسها أو انطلاقها من المرجعيات ذاتها.
وتبدو دائما في خطابات مفاهيم وتعبيرات» الاختلاف والتسامح وآداب الاختلاف» تعابير غريبة وضعيفة ومهادنة، رغم أنها كانت مكينة في تراث الفقه الإسلامي، وعرف لها أكثر من سبعين مرجعا، وجعل العلم بالخلاف ومواضعه والاختلاف وقواعده شرطا من شروط الاجتهاد في كل علم، فلا مكان لها في المحبس الأصولي الراهن والمعاصر.
يختلف «غيتو» التنظيمات الأصولية الراهنة عن «غيتو» اليهود التاريخي… فالأخير هو معزل (غيتو) لهوية دينية ولغوية وعرقية حرص على عدم ذوبانها في الآخرين، لكن لم ينعزل عنهم مع ذلك، بل تعرف على لغاتهم وأسهم في معارفهم وحضاراتهم، ولم يكن التغلب عليهم أو تهويدهم غاية عنه، فاليهودية ديانة قومية وغير رسالية على عكس الإسلام والمسيحية معاً.
أما «غيتو» الجماعات الأصولية فهو معزل تصورات وسلوكيات يرفض الاندماج والتعرف… وليس فقط الذوبان. ويبدو غيتو «التنظيم الأصولي» وعيا انعزاليا، تسكنه هواجس الصراع الأبدي وينغلق عليها. وخيالا انتصاريا لا تستطيع التفلت منه، خطابيا أو عمليا؛ ما يجعلها مجرد حركات غضب واحتجاج وثوران، وحالة شعار وإنكار أكثر من حالة صحوة وأفكار، وتمايز وخروج لا يعرف العيش والاستقرار.
وتأكيدا على هذا التصور فـ«الغيتو الأصولي» بعيدا عن الحياة والأحياء، تختزل المجتمع في جماعاتها، والسلطة في إماراتها، فيحرص عناصر هذه الجماعات على الارتباط والمصاهرة مع أشباههم داخل الجماعة نفسها، وينكر عليهم الارتباط من خارجها، كما صرح قيادي إخواني قبل أعوام عن هذا المنطق.
وظلت فكرة الشبكات العائلية والاجتماعية- وما زالت فاعلة- في التنظيمات الراديكالية على اختلاف أقطارها وبلدانها، وعبورا للجنسيات والثقافات والطبقات. بل تحضر المفاصلة مع الماضي والموروث ومع الدموي ليستبدل به ولاء التنظيم والفكرة الأصولية، فيصطدم عناصر التطرف عن أوطانهم ويمزقون جنسياتهم وينكرون ماضيهم وأسرهم، بل قد يستحلون بعض هؤلاء براء منهم متى ثبتت معارضتهم الصريحة لأفكارهم وولائهم الوظيفي والفكري للسلط في بلدانهم.
ولقد وقع الكثير من العمليات الإرهابية خلال العام الماضي في المملكة العربية السعودية من قتل عناصر شابة متطرفة لذويهم من العاملين في الجهات الأمنية، فقتل مراهق موتور خاله وقتل آخر والده ووالدته! وقتل مراهقان ابن عم لهم بنفس الغاية والاعتقاد الأصولي… الذي فصلهم عن كل مشاعرهم وعاداتهم وعائلاتهم وذكرياتهم معا.
عزلة عن الحياة ومفاهيم السعادة والاستقرار، تنضح ملامح المتشددين بالتجهم والعبوس. ويعتبرون الفرح والضحك من قسوة القلب، رغم أن المكروه كثرته. وكأن الفرح والضحك لا يمكن أن يكون غاية في ذلك. فالسعادة لا تكون إلا حربا ونصرا تتبعه سيادة أو هزيمة تتبعها شهادة. إنه مرتبط بحياة الصراع والحرب- الواعية واللاوعية- التي تسكن وجدان وأفكار المتطرف ومجتمعه الصغير في تنظيمه الأصولي، فكل سعادة مرتبطة بهذا المسار أو مؤجلة للآخرة. أما الدنيا وعمرانها واستقرارها وسعادتها فمنظومة مزاحة من ذهنية الجنود التي لا تهدأ في ثكناتها أو تنشط في ساحات حربها.
من هنا، لا يمكن تفهم ما بثه وأذاعه إعلام «داعش»– مثلاً- عقب إعلان خلافته في يونيو (حزيران) 2014 من مشاهد مقاتليه يلهون ويلعبون، أو يعقدون مسابقات دينية يكافئون الفائز فيها خارج هذا السياق والحالة المميزة غير المستقرة، حالة الحرب والمجتمع و«الغيتو» الصغير المنفصل عن مشاعر وأحاسيس العالمين.
أما التراث الذي يقتطفون منه، كما اقتطفوا من الحداثة، ما يناسبهم فقط في المواقع التواصلية والإنترنت وهواتف الثريا التي اخترعها الغرب «الكافر»، فلا يعرفون أنه عرف تراثا من الترفيه والضحك والمشاعر الإنسانية الطبيعية. لقد كتب فقيه كابن حزم الظاهري «طوق الحمامة» وكتب ابن داود الظاهري «الزهرة» في مشاعر الحب والعواطف، وحفظت معلقات الفحول من شعراء الجاهلية تتغنى بأسماء معشوقاتهم وقصص الحب العذري وغير العذري في بيئاتهم، ولم يقطعه أو ينفصل عنه تاريخ المسلمين الذي أتى بعده، بل دوّنوه وحفظوه، كما حفظوا عهد أردشير وكليلة ودمنة وحكايات ألف ليلة وليلة، وروى نزرا من مثل هذا سلفي حنبلي كابن قيم الجوزية توفي (سنة 758 هجرية) في الجزء الأخير من كتابه «الجواب الكافي».
ويروي ابن منظور، صاحب «لسان العرب»، عما سماه «الإحماض» عند الصحابة والتابعين والفقهاء في مادة «حمض» قائلا: «ويقال: قد أَحْمَضَ القومُ إِحْماضا إِذا أَفاضوا فيما يُؤْنِسُهم من الحديث والكلامِ كما يقال فَكِهٌ ومُتَفَكِّهٌ» وينقل ابن منظور أثرا منسوبا لابن عباس فيقول: في حديث ابن عباس: كان يقول إِذا أَفاضَ مَنْ عِنْده في الحديث بعد القرآن والتفسير: أَحْمِضُوا؛ وذلك لَمّا خافَ عليهم المَلالَ أَحَبَّ أَن يُرِيحَهم فأَمَرَهم بالإِحْماض بالأَخْذِ في مُلَح الكلام والحكايات»، ونسب إلى الزهري قوله: «الأُذُنُ مَجّاجَة وللنفس حَمْضة أَي شَهْوة كما تشتهي الإِبلُ الحَمْضَ إِذا مَلَّت الخُلَّة، والمَجَّاجَة: التي تمُجُّ ما تَسْمعه فلا تَعِيه إِذا وُعِظت بشيءٍ أَو نُهيَت عنه، ومع ذلك فلها شَهْوة في السماع؛ قال الأَزهري: والمعنى أَن الآذان لا تَعِي كلَّ ما تَسْمَعُه وهي مع ذلك ذات شَهْوَة لما تَسْتَظْرِفُه من غرائبِ الحديث ونوادر الكلام»..
هذا المنطق المتسع يضيق به «الغيتو» الأصولي مجتمعا وأفرادا، ووعيا ولا وعيا، لينحبس مختارا ومكرها في سجون الصراع والحرب المؤبدة.