النظرة العميقة لما يحدث في البلدان العربية، تعطي صورة أخرى غير تلك التي تظهر على السطح، خاصة وأنها صورة مركبة وأكثر تعقيدا مما تبدو عليه. فقد مرّ الزمن الذي كان فيه الوضع يبدو أنه يسير خطيا باتجاه تغيير سلس، وهذا لم يغير من أن سيولة عالية ذات طابع معقد تعيشها المنطقة، وهذه السيولة تتنازعها عدة تصورات واتجاهات تحاول أن تدفع الأحداث في اتجاهات تخدم هذه التصورات. ورغم أن جلّ ما يجري فيها هو نتاج لسياق عوامل وتطورات موضوعية، إلا أن هذا الموضوعي يتضمن الكثير من المصنوع، أقول المصنوع ولا أقول الذاتي.

منذ زمن بعيد، تحتاج المنطقة العربية إلى تغيرات عميقة تطال كل مستويات الحياة في الدولة العربية، وكان يمكن للنخب الحاكمة أن تكون مبادرة وترى وجهة التاريخ وتتكيف معها وتقدم على خيارات أخرى غير الاستمرار في الطغيان، مثل التنمية وتطوير التعليم والصحة بوصفها العوامل الأساسية لتطوير البنية البشرية، التي باتت في العالم منذ سنوات طويلة عماد أي تنمية، فالتنمية هي التنمية البشرية قبل ان تكون تنمية الموارد، عدد من الدول نجح في تنميتها وهو لا يملك أي موارد البشر، مثل اليابان وكوريا الجنوبية واجمالي جنوب رق آسيا. لكن هذا لم يكن خيار النخب الاستبدادية في بلداننا، التي اعتبرت بلدانها مزارع، تُفضل عليها بحكمها لها بوصفها فريدة عصرها وليست هي التي تُفضل عليها.

حاجة المنطقة إلى المتغيرات وعدم الإقدام عليها، جعل بلدانها تعيش حالة احتقان واستنقاع طويلة، راكمت كماً هائلاً من المشكلات، وأصبحت قابلة للانفجار منذ عقود. لكن التاريخ شاء أن تنفجر نهاية العام 2010 في تونس. عدوى الثورات التي أصابت البلدان العربية الأخرى بسرعة، في مصر واليمن وليبيا وسورية، دلت على التعطش العربي العام إلى التغيير العميق والى الحرية. لكن السلطات القائمة، لم ترد التخلي عن سلطاتها ولا تقديم التنازلات لشعوبها، وتمسكت بكرسي الحكم حتى النهاية، وقاومت التغيير بكل الإمكانيات التي توفرت لها، وبكل أدوات التأثير على المجتمع الذي اخترقته بأدوات قذرة طوال سنوات، من أجل ردع شعوبها عن خيار التغيير، الذي اعتبرته مجرد مؤامرة خارجية. لم تقاوم السلطات في البلدان التي انفجر فيها الربيع العربي فحسب، بل وقاومته الدول الأخرى بشكل وقائي أيضا، حتى لا يمتد إليها وتنضم إلى بلدان الثورات، وتم العمل وبشكل مكثف من قبل سلطات إستبدادية، ومن دول اعتبرت نفسها مؤيدة لموجة الربيع العربي، على تصوير الربيع العربي كوصفة للخراب، ويصبح تمني العودة إلى العهد السابق إحدى الأمنيات.

هل نجح ذلك، الجواب: نعم ولا.

نعم، نجح سعي أعداء التغيير في دفع قطاعات راهنت على الربيع العربي كمنجز سريع، يغير السلطات في المنطقة وينطلق سريعا خلف عالم سبقنا منذ زمن. كان الحلم بالنسبة إلى قطاعات واسعة قد بات باليد، ولا أحد يستطيع أن يسلبها إياه، لذلك عندما دخل الربيع العربي في تعقيدات الصراع، ودخلت عليه عوامل إقليمية ودولية، وتحول من انجاز ذي خط بياني متصاعد، إلى تحولات تسير في اتجاهات مختلفة ومتفاوتة ومعقدة، فيها الكثير من التخريب المصطنع بيد أعداء التغيير وأدوات الأنظمة غير الرسمية. كل هذا دفع العديد من القطاعات إلى اليأس من التغيير، وكأن ما تم القيام به هو إخراج النخبة الحاكمة (الدولة العميقة) من الباب وإدخالها من النافذة.

والجواب، أيضا لا، لأن بوابة التغيير انفتحت، ولم يعد من الممكن إعادة البشر إلى ما وراء تلك الأبواب التي احتجزتهم لعقود في أوضاع بائسة، وأجبرتهم أن يحتفلوا بهذا البؤس بوصفه منجزا استثنائيا. والخراب الذي وصلته الدول العربية قبل الوصول إلى الربيع العربي، بات ممرا إجباريا للتغيير، فالتغيير ليس مطلبا شعبيا فحسب، بل، وهو ضرورة موضوعية وتاريخية لخروج هذه البلدان من حالة الاختناق واحتباس المستقبل من قبل نخبة رديئة وفاسدة ومجرمة. لم يختار البشر الخراب عندما طالبوا بالتغيير، واحتجوا على انتهاك أبسط حقوقهم. من اختار الخراب هي الأنظمة الحاكمة التي كانت تعيث في البلد خرابا من قبل خروج البشر إلى الاحتجاج على أوضاعهم، هي نبوءة، تنبأوا بها وحققوها بأدواتهم المجرمة والقذرة. عندما يراكم علي عبد الله صالح وحسني مبارك المليارات من بلدان فقيرة فقيرة مثل مصر واليمن، نتساءل أي وحشية يعيشها النظام الحاكم وحاشيته، وأي مستقبل لهذه البلدان في ظل هذه الوحشية التي سعت إلى توريث الحكم إلى أبنائها لتستمر في النهب؟! وعندما تم الإطاحة بها، لم تقبل هذه النماذج الإطاحة وعيش حياتها في الظل، لقد وظفت كل إمكاناتها وثرواتها من أجل إيقاع المزيد من الخراب ببلدانها، علي عبد الله صالح نموذجا. وهناك نموذجا آخر، قرر أن يدمر البلد قبل خروجه من السلطة، بشار الأسد نموذجا، فهناك تم رفع شعار «الأسد أو نحرق البلد« وهو لم يتورع عن حرق البلد والبقاء حاكما على أطلالها بحماية الإيرانيين والروس.

مؤيدو الأنظمة الساقطة، ومؤيدو الأنظمة الباقية، كلهم يشيرون بالبنان إلى الأوضاع في ليبيا وسورية واليمن، ويتساءلون، هل هذا الربيع الذي جلب الخراب هو ما تريدونه؟ وكأنهم أبرياء مما يجري، ولم تكن لهم اليد الطولى في دفع الأوضاع إلى هذا الاحتدام الدموي في هذه البلدان وصولا إلى ما نحن فيه. ما أريد قوله، أن الأنظمة التي ادعت أنها دعمت الربيع العربي، كانت فاعلا أساسيا في إدامة الصراع وخلط الأوراق، وكانت كتلة أساسية من القوى المعادية للتغيير، ولذلك وقعت الثورات العربية في تقاطع مصالح بين من يُفترض أنهم داعموها وبين الأنظمة التي ثاروا عليها، الطرفان سعيا إلى إفشال تجربة الربيع العربي، وتصويرها نموذجا لجلب الخراب. لذلك، لا خيار سوى التغيير العميق، وسوى ذلك، تأبيد الخراب.

() كاتب من فلسطين