لا يجوز أن تكون مقاربة التدخل الخارجي في ظروف محاربة الاستبداد، محكومةً بحكم قطعي مستند إلى ثوابت

أيديولوجية.

فرفض التدخل الخارجي رفضًا مطلقًا، والموافقة عليه من دون تحفظ، كلاهما لا يعبران عن موقف سياسي؛ لأن الأول محكوم بثوابت أيديولوجية أكل عليها الدهر وشرب، والثاني يعبر عن انتهازية مفضوحة.

ولعل إحدى جوانب القصور في الفكر السياسي العربي هي افتقاره إلى نظرية في التدخل الخارجي؛ بمعنى صياغة أنموذج نظري بمتغيرات تربط بينها علاقات قابلة للتبدل بدالة تبدل الظروف.

نظرية قادرة على تزويد المتردد بين الموقفين بقياس للكلف والمآلات بدالّة المصلحة الوطنية.

وما مقولة الصفر الاستعماري التي وضعها رياض الترك إلا محاولة جريئة للقبض على شروط أولية لوضع نظرية للتدخل الخارجي.

وهي تصلح لوضع هذه الشروط الأولية؛ لأنها جاءت كوصف لواقع حصل بعد إسقاط نظام صدام حسين معبرة عن علم يتبع المعلوم كما تقتضي الممارسة السياسية العلمية، لا عن علم مخترَع يفرض نفسه على المعلوم؛ ليشكله بحسب قوالبه.

فالوضع السياسي في العراق في ظل نظام صدام كان مصمتًا جامدًا لا يفسح مجالًا لأي تغيير، ولكنه بعد سقوط النظام أصبح متغيرًا، وسائلًا، وقابلًا لإعادة التشكيل.

إن فرض مقولات ثابتة على الواقع السائل هو ديدن المؤدلجين الذين لمّا يعوا بعدُ عقم مقولاتهم، وما تسبّبت به من رهق لهم ولأبناء وطنهم، فهم لم يدركوا الحاجة الملحة لكشف وهم كثافة الواقع، وزيف محاولة قسره عل التطابق مع مقولاتهم النظرية، التي أثبت الواقع مقدار فواتها وتخلفها.

حاجات الناس المستبعدين عن مكاسب السلطة المستبدة، والذين يمثّلون المجتمع الموازي للمجتمع الحكومي، والمهيمن عليه من قبل الأخير لا تلقي بالاً للمعرفة التي تنتجها النخب إذا لم تقم بتلبية هذه الحاجات.

فهي غير معنية بشعارات رفض التدخل الخارجي، ولا بغيره من الشعارات التي ترفع على أنها ثوابت لا يطالها التغيير، وإنما معنيّة فقط بما يلبّي حاجاتها المتغيرة بوتيرة أسرع بكثير من قدرة هذه المعرفة التي تنتجها النخب، -وتنتج هي النخب- على مجاراتها.

ليس خطًأ اتباع منهج التحليل التراجعي؛ للحكم على فشل مشروع سياسي أو نجاحه، ما لم يكن هذا التحليل التراجعي منطويًا على مصادرة على المطلوب، تقتضيها محاكمة غير علمية، وموقف سياسي مسبّق.

إن حكم أحدهم على مشروع رياض الترك السياسي بالفشل هو من قبيل هذه المحاكمات التي لا تصمد أمام التحليل العلمي؛ لما تعانيه من عوار علمي، وتهافت سياسي.

فقبل الحكم على مشروع الترك بالفشل ينبغي أن يسأل هذا اليساري نفسه عن مدى نجاح مشروع اليسار العربي التقليدي الذي ينتمي إليه، وعن نفاد تاريخ صلاحيته باستخدام التحليل التراجعي نفسه الذي يستخدمه لمحاكمة مشاريع أخرى، وقبل أن يطلق حكمه على مشروع الترك عليه أن يسأل نفسه عن مدى نجاح المشاريع البائسة التي تبنّاها وصار أحد رموزها.

أما الإشارة من طرف خفي إلى انتهازية في موقف الترك الذي تبنى الديمقراطية والليبرالية منطلقًا وغايةً، فهو قصور عن فهم الدوافع الحقيقية لهذا الموقف الذي يعبر عن تطور في الموقف السياسي فرضته المتغيرات على الصعيد العالمي، وعن استجابة حصيفة لمتطلباتها.

إن الوعي بالمغايرة الذي امتلكه الترك، نقيضه الوعي بالمماثلة الذي يسيطر على عقل متّهمه، والذي قدّم ماركس له ولأمثاله أداة رائعة تصلح لامتلاك الوعي بالمغاير هي صراع الاضداد، ولكنهم دأبوا على استخدامها للتعبئة السياسية، بدل أن يستثمروها لتعميق الوعي بالشيء وضده، فانحرفوا عن مقولات المنظومة التي يتحركون داخلها، ويحاكمون مشاريع الآخرين وفقًا لمقولاتها، وضيعوا وقتهم ووقت غيرهم في مناكفات صبيانية لا تسمن ولا تغني من جوع.

نعلم أن ما قدمناه سيوصف بأنه من قبيل تقديس الأشخاص، وهو أسلوب رخيص يستخدمه المؤدلجون عندما لا يجدون سبيلًا آخر للدفاع عن حججهم الواهية.

إن المقدس الذي يعبدونه هو الجدير بنزع قداسته، فلا مقدس مشتركًا اليوم إلا الدم السوري المراق على مذبح الحرية، والذي لا يزال يتعالى عليه النخبويون من دون امتلاك شروط نخبويتهم المزعومة.

رئيس التحرير