عمر قدور

تتراكم عوامل المظلومية السورية مع التلويح بالاقتراب من مفترق بين طريقين، أولهما التسوية التي تسعى موسكو إلى فرضها تحت مظلة الأمم المتحدة، وثانيهما الذي يلفه الغموض، في حال عقدت إدارة ترامب العزم على إنشاء مناطق آمنة في سورية. السيناريو الثاني سيعني فعلياً تقسيم البلاد بين غالبيتها الساحقة التي تبقى تحت سيطرة النظام، ويحظى سكانها بحياة شبه عادية، ومساحة صغيرة جداً أشبه بالمحميات الطبيعية يتكدس فيها أولئك الممنوعون من الهجرة، والذين لن يحظوا بقدر أعلى من الأمان. بالطبع، هذه المحميات تختلف كلياً عن المناطق الآمنة، أو الحماية الدولية التي طالب بهما السوريون كخطوة نحو إسقاط النظام.
لدى السوريين كل العوامل التي تعزز مظلومية استثنائية في عالمنا المعاصر، من مجازر وتهجير طائفيين، مروراً بالإبادة المنظمة تحت الاعتقال وتدمير أسس الحياة خارج المعتقلات، وصولاً إلى التواطؤ الدولي على تسوية غير منصفة في الحد الأدنى. أمام هذه التسوية يوضع السوريون إزاء اختبار يأخذ وجاهته من واقعية فظة، لا تعترف إطلاقاً بتلك المظالم، ولا يندر فيها أن تُحاسب الأكثرية على أكثريتها، أو حتى على انتمائها المفترض إلى المحيط الإقليمي الأكثري. وإذا انتفض السوريون أصلاً ضد نظام يحرمهم من حقوقهم الأساسية فهم الآن أمام مجتمع دولي يمزج وصاية النظام السابقة بوصايته، ليبقوا محرومين من امتلاك القرار وكأنهم غير جديرين به.
التسوية المطروحة الآن هي أشبه بالصيغة اللبنانية، بعد استكمال متوقع لهيمنة «حزب الله» على مفاصل الدولة. فعلى غرار السيطرة العسكرية لميليشيا «حزب الله» يُطرح بقاء الجيش والمخابرات تحت سيطرة بشار الأسد وخليفته المحتمل، بينما تُمنح صلاحيات مدنية إضافية لرئيس الحكومة والمجالس المحلية، تلك الصلاحيات التي لا تعني بموجب الظروف الحالية سوى المسؤولية الاقتصادية عن إعادة إعمار ما دمره النظام. هي تسوية في المقام الأول بين المتحاربين، وقد غلبت الصبغة الإسلامية على الفصائل التي تقاتل النظام، غايتها الأساسية التملص من كل المطالب التي نادت بها الثورة، وكل الجرائم التي ارتُكبت أثناءها أو قبلها.
قد تُكتب مجلدات عن الحيف الذي وقع، والذي يُراد إيقاعه، بالسوريين، لكن مع الأسف لن يجد هذا الكلام متلقياً جاهزاً لأكثر من التعاطف الإنساني البسيط. وقد تُكتب مجلدات عن الأخطاء التي وقعت فيها الثورة أو المعارضة، وهذا أيضاً لن يغيّر من المآل الحالي، وليس مؤكداً دور هذه الأخطاء في دفع القوى الدولية القادرة إلى منع إسقاط النظام، وفق ما يريد البعض قوله. لكن نقد الثورة، بخلاف النقد الموجه للآخرين، يبقى له الاعتبار، لا لتقصي الأخطاء والاستفادة منها إذا أمكن، بل لتجاوز النظر إلى المظلومية كقدر لا مناص منه.
بوضوح شديد، لا يعني تشكل المظلومية وفق المعطيات الحالية سوى بنائها على أساس طائفي. قضايا مثل الحرية والمساواة لم تكن يوماً ضمن أي مظلومية، بقدر ما تستند إلى الثأر وتنميط الجماعات الأخرى، وغالباً شيطنتها. تلك القضايا الغائبة هي تالياً في أسّ التصدي للمظلومية، فغياب الحرية والمساواة، والاعتراف الحقيقي بالفرد وما يماثله من جماعات هامشية، هما المتسببان بالمظلومية وتكريس هذه المفاهيم هو علاجها، وإن كان علاجاً مديداً.
كان ياسين الحافظ متيقظاً ذات يوم، عندما رأى أن حداثة المنطقة مرهونة بمشروع حداثي تنشط فيه الأكثرية المذهبية في المنطقة. ربما كانت لحظة اندلاع الثورات تأسيساً لذلك المشروع، لكنها لا تبقى كذلك على خلفية المظلومية المتولدة بفعل قمع الثورة، وإذا أرادت الأكثرية البقاء مخلصة لأكثريتها ينبغي أن تتمسك برحابتها فلا تنزل إلى وعي أقلوي، هو بالضبط وعي المظلومية. كان من ضمن مقاصد ياسين الحافظ آنذاك أن تتخلى الأكثرية عن طابعها المحافظ، واليوم قد تكون هذه المهمة أعسر من قبل، وقد تتجه في بلد مثل سورية لتكون المنفذ الوحيد على ضيقه ووعورته.
لن يؤكد سوريّة الثورة وجود أفراد من خارج الأكثرية المذهبية، طالما هناك من ينسب نفسه إليها بعدّها ثورة سنية، وطالما هناك ميل إقليمي ودولي إلى اعتبارها هكذا ضمن حرب أهلية يُراد إنهاؤها بموجب محاصصة طائفية غير متوازنة. ولقد تعدّى الوضع منذ زمن طويل موضوعة تطمين الأقليات، وما يشابهه من أطروحات تضمر أيضاً الإقرار بسنية الثورة، لأن المحاصصة المطروحة تنطوي على امتلاك الأقليات مفاتيح القوة التي تفيض عن تطمينها.
ربما هناك اليوم من لا ينكر واقعية الهزيمة، على أمل استئناف الحرب لاحقاً والانتصار فيها. هذا التسليم لدى البعض قد يكون أهون من واقعية التعاطي مع تعقيدات المجتمع السوري والتأقلم معه، حيث يتطلب الإقرار بالواقع هنا ما هو أقسى من هزيمة يمكن التلاعب عليها بعدّها عابرة. هذه «الواقعية» المجتزأة يهمها الاستثمار في المظلومية كخزان لحربها المقبلة، وبهذا المعنى تراهن على وعي أقلوي ضمن الأكثرية ما دام يضمن لها السيطرة المعنوية عليها.
سيكون صادماً القول أن الأكثرية لا تستعيد أكثريتها ما لم تتخلَّ عن توصيف نفسها كذلك، لمصلحة توصيف يبدد أيضاً التصنيف الأقلوي. لقد كانت الأسدية عصراً ذهبياً للجماعات الصامتة، ومع بدء الثورة خرجت الجماعات إلى العلن لتحكم سطوتها على أفرادها، ولتنصّب قوى الأمر الواقع كافة نفسها ممثّلة إما لأفراد يعيشون وعي الأزمة، أو لأولئك المحرومين من حق تشكيل البديل. مستقبل ما بعد الحرب لم يكن في حسبان أية جهة، على الأقل منذ بدت حرب استنزاف لا تنتهي، وتغلبت فيها عوامل اليأس على عوامل الأمل بالنصر، أو تغلبت مصالح الاستمرار فيها على إنهائها.
اليوم، أمام الخيارات البائسة المطروحة، التحدي الأصعب هو ملاقاتها بطروحات تتجاوزها أخلاقياً ومعرفياً وحقوقياً، وإن لم تمتلك حظاً وافراً من النجاح على المدى القصير. ذلك يتطلب، وفق التقسيم المتداول، تخلص الأكثرية من انكفائها عن ثقافة العصر، وعدم التهيب من الانفتاح على العالم وفق السلوك الأقلوي المعهود، وبالتأكيد عدم التماس العذر بما نشهده من صعود لليمين المتطرف في الغرب.

الحياة