مناف الحمد

لا نكاد نعثر لدى دعاة الإلحاد في العالم العربي على ما يمكن أن يستوفي شروط الخطاب العلميّ، وهم إذ يستعلون على الغيبيين، إنما يصدرون عن نزوع نفسي أكثر مما يعبرون عن رؤية فلسفية.

فمن إسماعيل أدهم، إلى القصيمي، إلى المزوغي، إلى غيرهم من الدعاة الجدد الذين دفعت بهم إلى واجهة الظهور الإعلامي أوضاع متشابكة، ليس آخرها جدب الساحة الفكرية، وافتقارها إلى خطاب تداوليّ مشترك عابر للأيديولوجيا، والعجز عما يجسد القيم العمومية تجسيدًا يُستولد منه ما ينفع الناس، لا تعثر -في أحسن الأحوال- إلا على لغة هادئة، ولكنها تعدم وسائل الإقناع؛ بسبب شحّ الأدوات المعرفية لدى أصحابها، أو على لغة صاخبة، فيها كلّ ما يمكن أن يحتويه قاموس البذاءة من ألفاظ -في أسوئها-.

وإن كان المقام لا يتسع لإثبات دعوانا -هذه- إثباتًا تفصيليًا، فإننا نسلط الضوء على ثلاث ثغرات في الخطاب الإلحادي، تجعله قاصرًا ليس عن مجاراة الملاحدة العظام في الغرب فحسب، وإنما عن مجاراة ملاحدة العصور الوسطى في التراث الإسلامي الذين لا تملك إلا أن تعجب بإمساكهم تلابيب الموضوع الذي يدرسون، وقتلهم له دراسة، وحفرًا في أعماقه.

الثغرة الأولى: أنهم يصرون على أن موقفهم السلبيّ من علة الوجود الغيبية مستند إلى العلم -في تهويل واضح بعصا الأخير- لا يعبر إلا عن النقص العميق الذي يعانيه أبناء المجتمعات المتخلفة تجاه المجتمعات التي تنتج النظريات العلمية، ليس حكمنا هذا تحاملًا عليهم؛ لأن ادعاء الاستناد إلى العلم يظل ادعاء مفتقرًا إلى أركان تقيمه على ساقيه، ما لم يحقق شروطًا ثلاثة: (انظر طه عبد الرحمن، أصول الحوار وتجديد علم الكلام):

الأول: أن يعيّن منهاجًا قادرًا على تركيب العلوم تركيبًا متكاملًا.

والثاني: أن يحدّد نظرية تسمح باستثمار هذه العلوم.

والثالث: أن يحدّد أنموذجًا يجسد قضايا تلك النظرية.

أما دعوى امتطاء صهوة العلم بدون سرج -هكذا- فسوف يكبّ صاحبها على وجهه.

والثغرة الثانية هي العجز الواضح عن التفريق بين القضايا التي تشملها المعرفة الدينية، فالأخيرة تشمل بشكل رئيس وجود الله، وصفاته، وأفعاله. (انظر عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية)

قضية وجود الله ليست قضية تحليلية؛ لأن الوجود ليس محمولًا للموضوع الذي هو الله؛ لأنه لو كان محمولًا لاقتضى وجود الموضوع؛ لكي يُحمل عليه، وهو أمر غير معقول.

إنها قضية ضرورية أنطولوجيًا، وليس منطقيًا.

أما صفات الله، فضرورية منطقيًا؛ أي أن نفيها يفضي إلى تناقض منطقي؛ فالقضية: “الله (بوصفه مفهومًا) كلي القدرة” قضية تحليلية؛ لأن مفهوم موضوعها يتضمن مفهوم محمولها، وهي قضية ليس لها مدلول وجودي.

أما القضية: الله (اسم علم) هو الأساس الشخصي الأخير للوجود، فقضية يقود نفيها إلى تناقض منطقي، ولكنها ذات مدلول وجودي، أي أنها لا تصدق تحليليًا.

وبالطبع، فإن تفنيد القضية الأنطولوجية لا يتبع السبيل نفسه الذي ينتهجه تفنيد القضية التحليلية، وهنا مكمن اللبس في أدلة منكري الألوهية الذين لا يوضحون لنا أيّ قضايا يفندون، وأيّ منهاج ينتهجون.

أما أفعال الله؛ فجائزة، لا ضرورية، ولا يمكن أن تكون خلاف ذلك، وكونها جائزةً بالضرورة، فإنها مشتقة من صفة حرية الله الكلية، وهي حرية تنطوي -ضمنًا- على رفضها التفسير السببيّ، إنها حرية ضد سببية، فالله لا يتأثر في اختياراته بأي عامل سببي.

ولكنها ليست أفعالًا عشوائية؛ لأنها محكومة بحسابات ترجح اختيار الأحسن، وهو ترجيح تقتضيه العلاقة المفهومية بين الفعل وعلة اختياره، وهو لا يقدح في كلية هذه الحرية.

ومثال الأفعال الجائزة مُتَعلَّقات القدرة الكلية، فالأخيرة تتعلق بالأمور غير الضرورية منطقيًا، ومعنى كونها غير ضرورية منطقيًا أن حدوثها، وعدم حدوثها، متماسكان منطقيًا، وحتى الأمر الممكن منطقيًا قد لا يكون متعلَقًا من متعلّقات القدرة الكلية، وهو لا يقدح في كليتها، فمثلًا هزيمة العرب في حزيران/ يونيو عام 1967 أمر ممكن منطقيًا، ولكن لا يمكن لكائن كليّ القدرة أن يُحدث -الآن- هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، فعامل الزمن أيضًا يدخل في تحديد القدرة الكلية.

إن الأفعال الواجبة، أو المستحيلة منطقيًا، ليست أفعالًا؛ لكي تحدثها القدرة الكلية، فواجب الوجود لا يمكن إعدامه بواسطة القدرة الكلية؛ لأن وجوده ليس ممكنًا تتعلق به هذه القدرة، وهو ليس إنقاصًا من صفة الكلية.

ولم نلحظ أي إشارة إلى إدراك الفروق بين هذه القضايا لدى من وضعنا فكرهم تحت مجهر البحث من المبشرين العرب بالإلحاد؛ ما يرجح تمكن إرادة الإلحاد منهم، وقصورهم عن اللحاق، لا بالملحدين الغربيين فحسب، وإنما بأسلافهم من الملحدين في التراث العربيّ كذلك.

أما الثالثة، فما يتوسلون به لإنكار الألوهية، من ظاهرة وجود الشر والظلم في العالم، فهو لا يعدو أن يكون وسيلة بائسة، لا تحقق ما يصبون إليه؛ لأنها -ببساطة- تنزيهية سلبية للإله عن الشرّ، والظلم، ففحوى دليلهم: لو كان الله موجودًا، لما وُجد الشرّ، ولكن الشر موجود، فالله -إذن- غير موجود.

وهذا يستبطن دفاعًا سلبيًا عن العدل الإلهي، لا يمكن أن يوصف بأكثر من احتجاج على الظلم، يريد أن يُلبس نفسه لبوس الاستدلال المنطقي.

لقد سرت عدوى الإلحاد إلى هؤلاء من دون قطيعة معرفية أصلية، كالتي حدثت في الغرب الذي حلّ فيه اليقين العلمي محل اليقين اللاهوتي؛ بسبب الثورة العلمية، وحمل رايةَ الإلحاد في العالم العربي مفكرون أكثر من رجال علوم طبيعية، عادّين العلاقة بين الثورة العلمية، وإحدى نتائجها، وهي إزاحة اليقين الديني، علاقة شارط بمشروط، ولكنْ مع قلبها؛ إذ يصبح إقصاء المنظومة الدينية شرطًا لازمًا للثورة العلمية، وهو قلب للعلاقات بين الظواهر لطالما شغف به اللاهثون خلف سابقيهم في ركب الحضارة، وإن كلّفهم ما كلّفهم من تمحّل في صوغ الأدلة، وخلط بين مستويات الخطاب، يفقده تماسكه، ويورثه قلقًا جليًا في العبارة.