جورج صبرة*

منذ البداية، كان موقف روسيا سلبياً من الربيع العربي ومجرياته. ولم تخف يوماً هذا الموقف السلبي والمشكك في جميع محطاته والمراحل التي مر بها، وخاصة عندما وصل إلى سورية. حيث عبَّرت بوضوح عن عدم تفهمها لمصالح السوريين وطموحاتهم وتحركاتهم السلمية من أجل التغيير في بلدهم للحصول على الحرية والكرامة. وأظهرت بشكل فاضح ومخجل عدم مبالاتها بالاستحقاقات الإنسانية والإغاثية للشعب السوري، بعد أن حلت به النكبة الكبرى على يد نظام إرهابي قاتل وعدو للحياة والإنسان. واستمرت بتزويد النظام المجرم في دمشق بأدوات القتل والتدمير، ودعمته بكل أشكال الدعم ووسائله، كما وفرت له الحماية من الإدانة السياسية والعقوبات الدولية، وعطلت صدور قرارات من الأمم المتحدة أربع مرات بهذا الشأن. وفي حواراتها المتعددة مع المعارضة السورية، تمترست السياسة الروسية وراء مقولات ومواقف شكلية وانتهازية ومضللة. وقالت مراراً: إنها غير معنية بالأشخاص، إنما تهتم بالمحافظة على الدولة السورية ومؤسساتها، وإن مصير الرئيس يحدده السوريون. وكأن الشعب السوري لم يقل كلمته في بشار الأسد ونظامه بعد أكثر من أربع سنوات من عمر الثورة. كما استمرت في جهودها لتصنيع معارضة للشعب السوري، تنام على مخدتها، وتكون على مقاسها ووفق معاييرها. فاستضافت مؤتمري موسكو1 وموسكو2 للمعارضة المعلَّبة حسب طلب النظام، ودعمت مؤتمر الآستانة لنفس الأشخاص ونفس الغرض.
أظهر الغزو الذي قامت به القوات المسلحة الروسية لأرض سورية وسمائها تهافت ونفاق الخطاب السياسي لروسيا ، عندما خرجت من استحكاماتها وتمترسها إلى مسرح العمليات بشكل سافر ، وأظهرت حقيقة مآربها ونواياها ، بعد أن أسقط الغزو البروباغندا الروسية القديمة بشأن احترام إرادة السوريين ووحدة وسيادة واستقلال سورية كدولة ، وكذلك محاربة داعش . فهي تستهدف القبض على سورية كمنصة انطلاق لتحقيق مصالحها، وورقة مقايضة في العلاقات الإقليمية والدولية.
فراغ جاذب وكلفة منخفضة

لم يكن صعباً على الرئيس بوتين وجنرالاته اكتشاف الفجوة المفتوحة والفراغ الذي تركته السياسة الغربية عموماً والأمريكية على وجه الخصوص، فيما فعلته، ولم تفعله في المنطقة خلال السنوات الماضية. فالسياسة المترددة والانسحابية والرخوة، المتسمة بالكثير من الأقوال والقليل من الأفعال، التي اعتمدها الغرب، أغرت الدب الروسي بجرة العسل المفتوحة على شاطئ المتوسط. وشجعته على إملاء فراغ تركته ” سياسة التصريحات ” المتباينة، التي يمحو أحدها الآخر، وتفتقر إلى الحزم والصدقية وإرادة الفعل في سياسة الرئيس أوباما منذ البداية. وها هو الروسي يعرّي السياسة الغربية في الميدان، ويكشف هشاشتها وتخاذلها عن دعم قضايا الحرية والديمقراطية، واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. كما كان قد كشفها وأسقطها في الأمم المتحدة، عندما عطل الجهود السياسية الغربية وأخرجها من دائرة الفعل. ونتيجة لهذه السياسات وانعكاساتها على المنطقة، صارت الظروف الإقليمية إضافة إلى الدولية أكثر ملاءمة للتطاول الروسي، وتدفعه للقيام بمغامرة محسوبة بدقة وبأعلى درجة من الأمان تكتيكياُ، لكن حساباتها الاستراتيجية ليست كذلك. فقد أضعف الغرب حلفاءه التاريخيين في المنطقة، وأوهن من عزيمتهم وتصميمهم على دعم خيارات الشعب السوري وثورته بما تستحق من دعم ومساندة للدفاع عن نفسه. رغم أن أصدقاء الشعب السوري وعلى رأسهم الولايات المتحدة اعترفوا بهذا الحق في مؤتمر فاس 2013، لكن دون أن يقدموا لهذا الشعب ما يمكنه من الدفاع عن نفسه، أو ترك الآخرين يساعدونه في تحقيق ذلك. ظهرت السياسة الغربية بمظهر التخلي عن الأصدقاء والحلفاء في تركيا والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. وتركتها وحيدة تحرق أصابعها في مشاكلها الداخلية الناشئة بفعل تعقد مشاكل المنطقة. ووضعت الكثير من القيود والحدود والخطوط الحمراء لتحركها وجهودها في مساندة الشعب السوري تاركة قضايا المنطقة وأزماتها دون حلول لتتفاقم أكثر فأكثر. وحتى الآن يبدو الموقف الغربي متفهماً للاجتياح الروسي سياسياً وعسكرياً أو عاجزاً عن مواجهته، بما يوحي بقبوله والتعايش معه كأمر واقع لا حيلة في مواجهته. لذلك يبقى السؤال الصعب، لماذا حدث ذلك؟ وليس كيف حدث. وبالتالي ما العمل لمواجهته؟ وهي مسؤولية المجتمع الدولي والولايات المتحدة على رأس القائمة. فالسوريون يعرفون جيداً نصيبهم من المواجهة، وقد باشروها منذ اليوم الأول. فها هم يعتبرون التدخل الروسي احتلالاً لأرضهم وإرادتهم. ويتصدون له بكل الوسائل المتوفرة والممكنة.
أهداف روسية
اتضح الآن أن السبب المباشر للتدخل الروسي عسكرياً هو وقف حالة التدهور في النظام السوري ومنعه من الانهيار . فالهزائم العسكرية على الأرض التي تعرض لها خلال النصف الأول من عام 2015 كبيرة ومؤلمة. وكذلك التردي الأمني والسياسي والاقتصادي داخل البلاد وخاصة في المناطق التي يعتبرها حاضنته الاجتماعية. ويريد الروس الحصول على موطئ قدم صلب، يمكنهم من المشاركة بشبكة المواقع والمصالح القادمة، في بلد مفتاحي بين دول المنطقة، يذهب نظامه إلى نهايته المحتومة ليولد نظام جديد. وها هم يحصلون على قاعدة جوية في اللاذقية إلى جانب القاعدة البحرية في طرطوس، ويسيطرون على الأجواء السورية على البر وفي المياه الإقليمية. وفي سعيهم هذا يعززون فكرة الكانتون الطائفي الذي يأمل به بشار الأسد ويعمل له في الساحل. وكانت العمليات العسكرية الروسية واضحة في استهدافاتها هذه. وهو جهد يصب في المنحى التقسيمي الفئوي لسورية، الذي يعمل له أعداؤها. يضع الروس نصب أعينهم في سورية أهدافاً استراتيجية وسياسية واقتصادية واضحة. فعلى الصعيد الإقليمي يريد الروس تأمين حصتهم من النفوذ والمصالح والامتيازات التي حصلت عليها إيران، لأنهم كانوا شركاء في دعم النظام وحمايته كل هذه المدة، وليس من المعقول أن يتركوا إيران تلتهم الكعكة السورية -وربما أكثر من ذلك في المنطقة -وهم شركاء في دفع الثمن. خاصة وأنه يمكن تفهم هذا الأمر عربياً. فالوجود الروسي في المنطقة أقل خطراً من الوجود الإيراني.
يمكِّن هذا التدخل روسيا من ملء الفراغ ومحاصرة تركيا وابتزاز دول الخليج . ويرسم ملامح خارطة جيوسياسية جديدة للمنطقة، تمتد من موسكو إلى بيروت مروراً بطهران وبغداد ودمشق، على شكل اختراق يسترجع إلى الذاكرة أحلاماً قيصرية وأوهاماً امبراطورية، أرادت صواريخ كروز التي انطلقت من بحر قزوين دون وظيفة عسكرية تذكر، أن ترسم حدودها. وليست غرفة التنسيق العملياتي في بغداد إلا الجزء الظاهر من الصورة فقط.
وعلى الصعيد الدولي بقي ” السيناريو الليبي ” عقدة العقد للسياسة الروسية خلال السنوات الأربعة الماضية ، وعبَّرت دائماً عن ضيقها من تصرف الغرب الذي ” استغلها وخدعها “. فبقيت كامنة للرد عليه وتحصيل مواقع بديلة. وتريد في الوقت نفسه انتزاع اعتراف بمكانة روسيا على الساحة الدولية. ولا تخفى على المراقب رغبة بوتين في تصدير أزمة نظامه التي سببتها المقاطعة والعقوبات الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط إلى الخارج، والحصول على ورقة ضغط للمقايضة في معالجة القضية الأوكرانية العالقة. باختصار، ما يجري في سورية جزء من المواجهة الروسية الكبرى مع الغرب، تجري تغطيتها بعنوان الحرب على الإرهاب تحت عنوان ” داعش “، وهي كذبة كبيرة.
المخاطر والتداعيات 

يلغي هذا الاحتلال دور الوسيط لروسيا في مجريات الصراع في سورية والمنطقة. ويضرب العملية السياسية التي بدأت من بيان جنيف1. لأنه يجدد أوهام النظام بقدرة الحل العسكري والأمني الذي اعتمده منذ البداية لإنهاء الثورة، ويمضي عميقاً في تعزيز أعمال القتل والتدمير لسورية والسوريين. وأخطر ما فيه أنه يضرب مشروع ” المنطقة الآمنة ” التي يحتاجها السوريون، ويساعد على تثبيت مرتكزات ّالمخططات التقسيمية التي تتوق إليها إيران وإسرائيل، ويعزز نظرية ” المؤامرة الدولية ” التي يتعرض لها العرب السنة في المنطقة. وتكون الحصيلة الواقعية والمباشرة حروباً طائفية ومذهبية، تؤجج التطرف والعنف والإرهاب، الذي ينتج مزيداً من اللاجئين الذين يطرقون أبواب العالم وخاصة في القارة الأوروبية. يحمل التدخل الروسي عوامل عدم استقرار لدول أخرى في المنطقة. ويعطي للاحتلال الإيراني وتدخلات ميليشيا حزب الله غطاء ومبرراً، مثلما يعطي لمنظمات التطرف والإرهاب كداعش وأخواتها سبباً للبقاء ووقوداً للاستمرار. كما يعرِّض أوضاع المسيحيين في المنطقة للخطر، ويظهرهم غرباء عن مجتمعاتهم، بعد أن استجر دعم الكنيسة الروسية لهذا الغزو، في إحياء لصيغة ” الحرب المقدسة ” التي تحفل ذاكرة الشرقيين من مسلمين ومسيحيين بسمعتها السيئة ونتائجها المدمرة والبغيضة.
من الواضح أن الغزو الروسي لن ينجح فيما فشلت فيه إيران بإعادة تأهيل النظام ، ولن يغير الحقائق الصلبة على الأرض . لكنه يزيد القضية تعقيداً والحرب اشتعالاً. ومن المؤسف والمؤلم حقاً أن توضع ألام شعب ومآسيه ورقة للمساومة والمقايضة في عملية أقل ما يقال فيها، انها غير إنسانية ولا أخلاقية. وهو ما يؤسس من جديد لاعتماد فلسفة القوة وفرض الأمر الواقع في العلاقات الدولية. وهذا ما يفعله بحرية واقتدار الوجود الروسي الجديد في الشرق الأوسط. لكن النتائج الحقيقية تكون من خلال الرد المنتظر. فلم يعد الصمت ممكناً، والمسؤولية التاريخية (إنسانياً وكونياً) تنتظر من يلتقطها.

————-

* رئيس المجلس الوطني السوري