خليل عساف
عاش مدنيو الرقة ساعات عصيبة، الأحد، بعدما سرت إشاعات عن إصابة جسم سد الفرات، واحتمال انهياره، ما سيتسبب في إغراق المنطقة خلفه باتجاه المصب، في غضون دقائق. الإشاعة انتشرت بعد أن وردت أنباء عن تدمير محطة التحكم فيه، وسعَّرها نقل عناصر التنظيم لعائلاتهم من داخل الرقة، وسريان الخبر في أوساط المدنيين، الأمر الذي أوقع سكان المدينة في حالة فوضى عارمة، دفعت الآلاف منهم إلى محاولة الخروج من المدينة المُحاصرة.
الخبر أكدته وكالة “أعماق” التابعة للتنظيم، ثم نقلته أيضاً وسائل إعلام عن قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية. وذلك قبل أن يتدارك قياديو التنظيم في الرقة الأمر بالإيعاز إلى عناصر “الحسبة” ومساجد المدينة وحواجز التنظيم عند أطراف المدينة بتكذيب الخبر، ومنع الناس من الخروج. هذا الحال من الضغط النفسي يُضاف إلى ما يعانيه السكان من انقطاع الماء والكهرباء، وشح الموارد وتراكم النفايات ونقص المعلومات.
في هذه الأثناء وعلى صعيد العمل العسكري أعلنت “وحدات حماية الشعب” الكردية أنها تمكنت من “تحرير مساحة 540 كيلومتراً مربعاً، في الريف الشرقي لمدينة الرقة، ومن ضمنها بلدة الكرامة الاستراتيجية، التي كانت معقلاً رئيسياً لمرتزقة داعش”، كما “حررت مساحة 1100 كيلومتراً مربعاً في محور أبو خشب”. وبهذا تكون “وحدات الحماية” قد تجاوزت العقبة الأكبر في الريف الشرقي؛ بلدة الكرامة، ليبقى أمامها قرى الحمرات الخمس، التي يُحتمل ألّا تشهد دفاعاً قوياً عنها من قبل مقاتلي التنظيم بعد سقوط الكرامة، معقل ورمز التنظيم في الريف الشرقي ومصدر أهم قادته المحليين.
وفي السياق، أعلنت “قوات سوريا الديموقراطية” التي تشكل “وحدات الحماية” عمودها الفقري، مساء الأحد، أن “مقاتلي ومقاتلات غرفة عمليات (غضب الفرات) حرروا مطار الطبقة بعد أيام من الاشتباكات مع مرتزقة داعش”. ويقع مطار الطبقة العسكري إلى الجنوب من مدينة الطبقة، ما يعني أن المدينة أصبحت مطوقة بالقوات الأميركية والكردية من ثلاث جهات: الشمالية والغربية والجنوبية. ولم يبق منفذ لحركة مقاتلي تنظيم “الدولة” سوى باتجاه الرقة شرقاً. وهذا ما يجعل الطبقة أيضاً بحكم الساقطة عسكرياً، خاصة مع احتمالات انتهاء عملية السيطرة على جسم سد الفرات خلال الساعات القادمة.
تأتي هذه التطورات المتسارعة خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، نتيجة انخراط غير مسبوق للقوات الأميركية في أعمال القتال الفعلي، وخاصة بعد إنزال بالمروحيات قامت به في قرى غربي الطبقة، بعد أن كان دورها مقتصراً على إدارة المعارك عبر خبراء ومستشارين عسكريين. هذا الوضع المستجد عسكرياً يضع “وحدات حماية الشعب”، الجناح العسكري لحزب “الاتحاد الديموقراطي” الكردي، في موقع القوة إزاء كافة الأطراف المحلية السورية الأخرى، بما فيها النظام.
“الوحدات” تبنت استراتيجية الولايات المتحدة في “محاربة الإرهاب” ونالت عبرها دعماً سياسياً وعسكرياً غير محدود، في حين طورت بموازاة تمددها العسكري على حساب تنظيم “الدولة الإسلامية” مشروعاً قومياً كردياً يبدو أنها تطمح منه إلى تحقيق أحد سيناريوهين: سيناريو الحد الأقصى الذي يتمثل في إقليم مستقل في الجزيرة السورية بغطاء أميركي أوروبي يجد دعواه الأيديولوجية في السيطرة على البيئة الحاضنة والمنتجة لـ”داعش”، وسيناريو الحد الأدنى المتمثل في خلق إقليم فيدرالي متصل في محافظات الجزيرة الثلاث يلحظ السيطرة على مناطق النفط في الحسكة وديرالزور بوجه خاص. إلّا أن كلا السيناريوهين يحتاج لتنفيذه إلى غطاء دولي طويل زمنياً، وفاعل سياسياً وعسكرياً، يجري بموجبه تغيير ديموغرافيا المنطقة كلياً، بما فيها استجلاب أكراد من بلدان أخرى. كما لا يحتمل أن ينجح أي من السيناريوهين ما لم ينكفئ نظام الرئيس السوري بشار الأسد في مناطق سيطرته، ويقنع بالأمر الواقع الذي يتطلب بدوره توافقاً دولياً وإقليمياً يصعب تحقيقه في ظل المعطيات الحالية. وشكَّل الحضور العسكري الأميركي على خطوط تماس “وحدات حماية الشعب” الكردية درعاً حامياً لها سواء في مواجهة الأتراك وفصائل الجيش الحر في ريف حلب الشمالي، أو في مواجهة النظام وحلفائه الروس في ريف حلب الشرقي وبادية الشام.
وكانت “وكالة نوفوستي” الروسية قد نقلت الأحد عن مصدر في جنيف لم تفصح عنه، أن الأكراد، الذين وصلوا إلى جنيف لمناقشة الجوانب القانونية في دستور سوريا “الجديد”، يعرضون حلين اثنين للمشكلة الكردية: إما إنشاء دولة كردية منفصلة كلياً عن سوريا، وإما إنشاء كونفدرالية لكل منطقة “حكم ذاتي” فيها لغتها وثقافتها وأجهزة سلطتها. ويقول المصدر، إن الحل الثاني هو “الأكثر واقعية، بالطبع”. وتشير الوكالة إلى أن الأكراد أنفسهم منقسمون في ما بينهم حول هذين الإقتراحين.
لكن، وفي المقابل، فإن انتهاء تنظيم “داعش” كبنية ووظيفة، ربما يحمل معه بذور انتهاء دور “وحدات الحماية”، وربما نظام بشار الأسد أيضاً، اللذين تركز معنى وجودهما واستمرارهما ودورهما خلال السنوات الأخيرة على الاستجابة لخطر التنظيم والقضاء عليه. وقد يخلق غياب “داعش” مناخاً سياسياً ملائماً للخلاص من ظواهر مشابهة له في الجوهر.