ربما كان عبد الرحمن ابن خلدون من أهم الذين شخصوا مضمون مفهوم الدولة في العصور الوسيطة والقديمة، وعلى وجه الخصوص في البلاد التي أرّخ لها ودرس مجتمعاتِها والتي ضمَّنَها في عنوان كتابه الشهير(كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر). ولقد عنونت مقالي بالدولة الخلدونية، tحتى لا يحدث سوء فهم فإن أبن خلدون لم يكن من أنصار هذه الدولة ,ولم يكن من أعدائها وإنما شخصها وحلل مضمونها وصيرورتها.
-1-
كان يرى ابن خلدون أن الدولة في هذه البلاد التي ذكرها، كانت قائمة على مفهوم العصبية السلالية القبلية والعائلية. ففي رأيه السلالة هي المحور الأساسي للعصبية الذي تتشكل حوله الدولة. ولم يكن في تلك الحقبة يشكل ايديولوجيا الدوة سوى الدين أو المذهب الديني؛ فلا الفلسفة ولا أي فكرغير ديني قد دخل في هذا الإطار. ولذلك قالوا ويقولون للدولة دين، وأن الناس على دين ملوكهم.
في اعتقادي هذا هو حجر الزاوية في دولة العصور القديمة والعصور الوسيطة؛ فالدولة تقوم على سلالة قادرة تمكنت من تحقيق الغلبة، وفي هذه الحال لا بد لهذه السلالة من دين أو مذهب تتبناه كإيديولوجيا تدافع عنها.ولقد لخص المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري هذا المفهوم الخلدوني حين قال في كتابه (نقد العقل العربي) إن الدولة العربية قامت تاريخيا على ثلاث قوائم:”العقيدة والقبيلة والغنيمة”.
في اعتقادي هذا المفهوم الخلدوني كان حاضراً منذ اليوم الأول لوفاة النبي محمد في اجتماع السقيفة، التي تركز فيها مضمون النقاش حول أحقية الخلافة أهي يجب أن تكون للمهاجرين أم للأنصار؟ وبعد اختيار أبي بكر لخلافة الرسول كانت في اليوم الثاني مباشرة قد بدأت تتشكل بذور خلاف آخر يتعلق بأحقية آل البيت بالخلافة وذلك حينما تردد علي ابن أبي طالب في مبايعة أبي بكر.
وكذلك الحال بعد موت عمر ابن الخطاب كان حاضراً في اجتماع الستة مفهوم العصبية والسلالة بين آل أمية وآل هاشم. وسياق الجلسة ومجرياتها تؤكد ذلك.
ومن ثم جاء مقتل عثمان ليفتح باب الصراع بين آل هاشم وآل أمية على مصراعيه. وكانت معركة الجمل مذبحة حقيقية للطرفين، ومن ثم جاءت معركة صفين لتحسم الأمور لصالح معاوية والأمويين.
ومن ثم جاءت دولة العباسيين وتعامل السفاح مع الأمويين لتؤكد نظرية ابن خلدون في العصبية والسلالة الغالبة المنتصرة. ومن ثم جاء الانقلاب المتوكلي ليدخل الأتراك بقوة في مفاصل الدولة العباسية ومن ثم احتل بغداد البويهيون ثم جاء السلاجقة فاحتلوا فارس والعراق وبلاد الشام وجزءاً كبيراً من آسيا الصغرى. ثم جاء الطولونيون والأخشيديون والحمدانيون والفاطميون والزنكيون والأيوبيون ليشكلوا دولاً ضمن الدولة العباسية ومن ثم جاء المماليك.في هذه الأثناء كانت تبرز سلالة تركمانية في قلب دولة السلاجقة ولما قوي عودها تشكلت السلطنة العثمانية على اسم عثمان السلطان الأول.
لنلاحظ هنا مسألة هامة: فكل هذه الدول مفهوم العصبية كان واضحاً شديد الوضوح في أسمائها: دولة الأمويين قائمة على عصبية وسلالة بني أمية، الدولة العباسية قائمة على اسم عباس عم الرسول من آل هاشم؛ الدولة الفاطمية قائمة على عصبية بنت الرسول فاطمة وعصبية المذهب الشيعي من الفرع الاسماعيلي وكذلك باقي الدول كانت أسماؤها على نفس المنوال قائمة على اسم السلالة الحاكمة والغالبة إلى أن تشكلت السلطنة العثمانية.الاستثناء الوحيد كانت الدولة الراشدية التي لم تدم طويلاً وإذا لم يظهر الصراع السلالي في اسمها فكان يظهر بين فترة وأخرى في مضمون صيرورتها التاريخية .
وهذا الشكل من الدولة السلالية كان يسود ايضاً في بلاد فارس وما وراء النهر، وكذلك الحال في شمال إفريقيا. وهنالك مثال كبير في التاريخ يؤكد التشخيص الخلدوني للدولة في تلك الحقبة.فلقد استطاع السلطان اسماعيل الصفوي وهو من عائلة تركمانية سنية في الأصل أن يحتل فارس ويشكل سلطنته ويجعل عاصمته أصفهان، واعتنق المذهب الشيعي واعتمده ديناً للدولة على عكس الدولة العثمانية التي اعتمدت المذهب السني الحنفي مذهباً رسمياً لها.
لنرى ما ذا يقول ابن خلدون عن دولة العصبية والسلالة: ((إن كل سلالة حاكمة تحمل في ذاتها بذور انحطاطها؛ فيمكن أن تضعف بسبب الاستبداد أو الإسراف أو فقدان مزايا القيادة. وقد تنتقل السلطة الفعلية من الحاكم إلى أفراد من جماعته الخاصة؛ ولكن أولا وآخراً من الممكن أن تحل محل تلك السلالة سلالة أخرى تشكلت بالطريقة ذاتها، وعندما يحدث ذلك لا الحاكم وحده بل الشعب بأكمله الذي استندت إليه سلطته(أي عصبيته)، والحياة التي أقاموها يمكن أن تزول)).
-2-
كل هذا العرض التاريخي معروف لدى معظم المؤرخين ولدى أكثر الدارسين والباحثين والمثقفين. والمؤرخ والباحث التونسي هشام جعيط له باع طويل في هذا الموضوع. في هذا العرض التاريخي أنا لا أضع نفسي ناقداً لهذه الدولة العربية الإسلامية التي قامت على العصبية والسلالة .
فالمنطق التاريخي لهذا النمط من الدولة الذي تكلم عليها ابن خلدون، يرتبط في اعتقادي بالعوامل الاجتماعية والتشكيلات الاقتصادية وأنماط الإنتاج التي كانت سائدة في تلك الحقبة، وكذلك يرتبط بالجيولوجيا الثقافية الراسخة لدى هذه الشعوب خلال آلاف السنين. وفي اعتقادي لهذا السبب لم يكن عمر الدولة الراشدية طويلاً؛ وكذلك هذا المضمون التاريخي للدولة الذي ساد في تلك الحقبة والذي يستند لظروف موضوعية وذاتية، هو الذي منع الخوارج من ان ينتصروا في تلك الفترة مع أنهم كانوا يقولون إن الخلافة يجب أن تعطى للأصلح من الناس على قاعدة: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وبغض النظر عن انتمائه لآل البيت أو قريش أو غيره من الانتماءات وهذا في حد ذاته كان تفكيراً متقدماً وسابقاً لأوانه في عرف زمننا المعاصر. ويبدو أن هذا التفكير كان خارج سمة العصر. وهذ ما حدث للمعتزلة ففكرهم العقلاني لم يلق في المجتمع آنذاك قاعدة اجتماعية تدافع عنه. وهنالك من يرى من الباحثين أن معاوية لم ينتصر فقط بقوته العسكرية وعملية التحكيم ورفع المصاحف؛ وإنما كان العصر ومنطق الدولة والقاعدة الاجتماعية في تلك الحقبة لصالح معاوية وهذا المنطق كان يقوم على أن الدولة تتشكل بالعصبية والسلالة والغلبة. هذه سمة ذلك العصر في منطقتنا.
ما أريد أن أقوله في هذا المقال أن مضمون الدولة العربية الإسلامية التاريخية الذي تكلم عنه ابن خلدون، أو إذا صح القول الدولة الخلدونية، لا تزال معشعشةً بشكل أو بآخر، بدرجة أو بأخرى، في الدولة العربية المعاصرة وليس فقط في الدول التي لا تزال قائمة علنا على السلالة والعائلة مثل السعودية ودول الخليج. وإنما أيضاً في الدول التي رفعت الشعارات القومية والاشتراكية بصوتٍ عالٍ.
خرجت بعض الدول العربية نسبياً من مفهوم الدولة التي وصفها ابن خلدون القائمة على العصبية والسلالة خلال فترة الاستعمار في القرن الماضي وكذلك غداة الاستقلال لفترة قصيرة، ولكن عاد منطق الدولة القديمة والوسيطة يعود إليها بشكل أو بآخر.
إن الدول العربية الراهنة تعيش حالة تناقض كبير مابين الدولة الحديثة والدولة الخلدونية التاريخية القائمة على السلالة والعصبية.وفي اعتقادي السؤال كيف يمكن حل هذا التناقض؟ وهل يا ترى هذا الانفجار البركاني الشعبي في كل العالم العربي يوحي بنهايات الدول الخلدونية في العالم العربي؟ في كل الأحوال من يقود كل مستويات البنية الاجتماعية هو المستوى السياسي.
ما أثار انتباهي لدى ابن خلدون أنه كان يشخص في نصه حالة دول في أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة وليس في دولة محددة أو زمن محدد، وفي اعتقادي أن تشخيصه ينسجم إلى حد كبير مع مفهوم الدولة باللغات الأوربية. فالدولة في هذه اللغات هي حالة زمنية مكانية طويلة نسبياً لها جذورها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية(البعض يدعوها في هذه الأيام بالدولة العميقة). ولنلاحظ أن في هذه اللغات الحالة والدولة يجمعهما مصطلح لغوي واحد(Etat /State) أما في اللغة العربية فالدولة من دال يدول ، فالدولة تدول من سلالة إلى أخرى ولكن المضمون لا يتغير كثيراً من سلالة إلى أخرى. في اعتقادي الدولة حالة سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية تتغير مع حدوث قطوع كبرى على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي.والحكام يدخلون في مفهوم السلطة والحكومة.
نقولا الزهر
دمشق في 3/6/2016