إن حذف مفردة العربية الموصوفة بها الجمهورية، والاقتصار على صفة السورية ما كان ليكون مشكلة لولا أنه يستبطن مخزونًا من النقمة على الدلالة الإقصائية لصفة “العربية” التي مسخها نظام البعث عندما حولها إلى عروبة إطلاقية يفترض أن تكون وفق الأيديولوجيا البعثية وعاء صهر لكلّ الكيانات والهويات الأصغر منها، بينما كان يوازن إطلاقها بهوية مفرطة في التعيين هي شخصية القائد الخالد الذي تدور في فلك قداسته كل الفضاءات في سورية، وتمّحي أمام جوهره كلّ الأعراض.

ومن هنا فإن مخزون النقمة له ما يبرره، ولكنّ ما يفرزه هذا المخزون من بديل مقترح لا يمكن أن يكون في ظلّ الانكفاء على الهويات الفرعية الذي سببته عقود الاستبداد، وكرّسه ما اعتور الثورة السورية من انحراف عن الإجماع الوطني بديلًا أقل إقصائية وأكثر تمثيلية للمشترك الوطني السوري.

لقد ناضل السوريون لنيل استقلالهم تحت ظل العروبة كمفهوم جامع ثقافي حضاري، ومارسوا السياسة بعد الاستقلال في ظل هذا المفهوم نفسه، فلم يكن عائقًا أمام نضالهم المجيد لنيل استقلالهم، ولا عائقًا أمام تجربتهم الديمقراطية الباكرة.

ولكنه مسخ الى دلالته الإقصائية على يد سلطة البعث التي استثمرته استثمارًا أيديولوجيًا ضيقًا ثم استثمارًا انتهازيًا في عهد السلطة الأسدية.

العالم السيميائي الذي استقرت مدلولاته عبر عقود الاستبداد لا يمكن أن يشتق منه بعد دوامة العنف والاحتلال الذي جلبه نظام الأسد إلا مدلولات مشابهة لمدلولاته في تعاملها مع الهوية ككائن ساكن، يعبر عن نزعات شوفينية كبرت، وتفاقمت عدوانيتها بفعل المظلومية.

وما الإصرار على حذف كلمة، والوهم أن هذه خطوة لازمة لاستيعاب ظاهرة التنوع إلا تجسيد لرغبة في مقاومة عنف رمزي مارسته هذه الكلمة بمدلولها المشوّه الإطلاقي، وهي رغبة تتجاور مع إرادة خارجية لا يستطيع أصحابها أن يخفوا مخيلتهم الاستشراقية التي لا ترى في مجتمعاتنا إلا فسيفساء لا تقبل مكوناتها التوافق على هوية وطنية جامعة، وأقصى ما يمكن أن يلمّ شمل مكوّناتها التساكن في الحيز الجغرافي.

إن الخيارات السياسية لا قيمة لها ما لم تقترن بتمثل معرفي للواقع، وهذا التمثل المعرفي إذ يكون من مكوناته فهم مظلومية الأقليات القومية، وغيرها فإن من مقوماته أيضًا إدراك أن العروبة حاضن للأكثرية، وركيزة لوجدانها الجمعي المتمثل بدينها، وأن مسخها ليس ذنبًا تحاكم عليه، ومن ضمن مكونات هذا التمثل إدراك أن الأقليات القومية لا تعدم تشوهات في أيديولوجياتها، وارتباطاتها، وتشوفات جزء منها لما يتجاوز الوطنية الجامعة.

ليست الهوية مفهومًا منفكًا عن الحركة والتغير، وهي لا تكون قابلة لتمثيل المنتمين إليها إذا لم تكن فضاء منبسطًا قادرًا على استيعاب ما يشترك فيه الناس، وهي لا تصنع برغبة مظلومين في وضع كلمة مكان كلمة.

وهي لا نكون هوية تعترف بالجميع من دون إقصاء ما لم تتموضع ضمن بنية المجتمع السياسية، أي ما يشترك فيه أفراد المجتمع كجماعة، لا ما يشتركون فيه كأفراد.

ولا يمكن صياغة هذا المفهوم للهوية إلا باتباع المنهج العلمي التحليلي للاختيار الذي يعتمد على تحليل المواصفات العامة، والملامح الثقافية المشتركة للأمة في عصورها المتعاقبة من واقع خطابها الثقافي، وأدائها العملي، وأسلوب حياتها، وطرق استجابتها لمتغيرات كل عصر، وتحديد الملامح الأصلية، وتتبع فعاليتها عبر العصور، وعزل الملامح الدخيلة، وبحث تأثيراتها سلبًا وإيجابًا.

واتباع هذا المنهج يحتاج إلى ما هو أكثر من الاستجابة لرغبة أقلية ما، وإلى ما هو أكثر من خطاب متكلّف لمثقفين قادمين من بقايا أيديولوجيات بالية، وبالتأكيد بالنظر عبر عدسات محلية، لا خارجية.

رئيس التحرير