ياسين الحاج صالح

الجمهورية

يمكنُ تحقيبُ السنوات الخمس المنقضية تقريباً على بدء الثورة السورية بطرقٍ متعددة، وفقاً للمتغيرات

التي نعتمدها كمعيار لتمييز المراحل. هذه المقالة تعتمد تمييزاً بين ثلاث مراحل، وفقاً للفاعل الصاعد الجديد في كل مرحلة.

مرحلةٌ أولى تغطّي العامين الأولين تقريباً، هي مرحلة الثورة، والفاعل فيها هو قوىً وطنية شعبية متنوعة، ضعيفة التنظيم، من الطبقات الدنيا والطبقة الوسطى؛ ومرحلة ثانية هي مرحلة الأسلمة، وتمتد بين مطلع 2013 وحتى أيلول 2014، وقت بدء الحرب الأميركية الدولية على داعش، والفاعل الصاعد فيها قوىً إسلامية سنية سلفية متنوعة، قضيتها هي عقيدتها الدينية السياسية؛ وأخيراً مرحلة التدويل المباشر الشامل، والفاعل الصاعد فيها قوىً دولية متنوعة، آخرها روسيا التي تقود اليوم الجهد الحربي للنظام.

 

مرحلة الثورة

تمتدُ مرحلة الثورة نحو عامين، بين آذار 2011 وحتى مطلع 2013. طابعُ الثورة العام في مرحلتها السلمية، بين ربيع وخريف 2011، وفي مرحلتها المسلحة، طابعٌ وطنيٌ شعبي، أخذَ يتراجع في النصف الثاني من 2102 مع انهيار الإطار الوطني للصراع السوري (اغتيال «خلية الأزمة» في 18 تموز 2012 تصلحُ نقطةً اصطلاحية لبدء الانهيار المتسارع للإطار الوطني)، ولعله انتهى في وقتٍ ما من الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2013. كانت الثورة قد حُرِمَت، بمشاركة لا تزال خفاياها غير معلومة، من تحقيق ممكن للنصر في دمشق بين أواخر 2012 وأوائل 2013. هذا تقديرٌ سبقَ لكاتب هذه السطور أن عبّر عنه غير مرة في أوقات سابقة استناداً إلى ملاحظات وشهادات ميدانية، قبل أن تتسرب مؤخراً معلومات أميركية تؤكد ذلك.

في هذه المرحلة الأولى كان أرخبيلٌ من قوى شعبية يواجه حكم السلالة الأسدية، القائم جوهرياً على تمييزٍ مركبٍ ومتعدد المستويات بين السوريين، طبقي وطائفي وإثني، وعلى منع النقاش الداخي والاختلاط بالعالم، وعلى القسوة والإذلال، وعلى دوام السلالة الأسدية أو «الأبد». في هذه المرحلة ظهرَ الغنى المكبوت لسورية، من وراء نحو أربعين عاماً من الحكم السلطاني المحدث. كانت مخيلة الثورة مشدودة نحو سورية جديدة لا أسدية (سورية لينا وما هي لبيت الأسد!)، ولا مخابراتية، تُعرَّف بالسوريين الذين كانوا طوال شهور يحتجون سلمياً، واصطبغت احتجاجاتهم غالباً بالطابع المحلي من حيث اللهجة والأغاني والهتافات، وإن يكن شاركَ فيها أيضاً ناشطون غير محليين، كانوا يأتون من مناطق أخرى، من جماعات أهلية أخرى، ومن مدن أخرى أحياناً (من دمشق إلى حمص مثلاً). الوطنية الشعبية عبّرت عن نفسها بمركزية مطلب الكرامة: الشعب السوري ما بينذل! وبقلب مفهوم الوطنية لينتقل من التمركز حول الدولة إلى التمركز حول الشعب: اللي بيقتل شعبو خاين! وبوحدة السوريين: واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد! وبتحقير شديد لبشار (أغاني القاشوش) ولأبيه (يلعن روحك يا حافظ!)، في ضربٍ من «كفرٍ» عام بالدين الأسدي الذي فُرِضَ على السوريين طوال 40 عاماً. وهذا كله قبل أن يقترن الاحتجاج السلمي بحمل السلاح، ويستمر حتى أواخر حزيران 2012 وقت بلغت بؤر التظاهر الأسبوعية أكثر من 700.

مرحلة الثورة هي أيضاً مرحلة الانشقاقات التي أصابت هيئات النظام المدنية (الحكومة، القضاء، البرلمان، السلك التعليمي، وسائل الإعلام…) والعسكرية العامة، ولم تَطَل مكوناته الأمنية والعسكرية ذات الوظائف الأمنية، إلا على نطاقٍ بالغ الضيق. وخلال هذه الفترة كانت القوى المقاتلة سوريّة ومحلية، عنوانها العام، الفضفاض في الواقع، هو «الجيش السوري الحر» الذي أخذ يتشكل في صيف 2011، وكان وزن عسكريين منشقين أساسياً فيه.

هذه المرحلة هي أيضاً مرحلة التنسيقيات التي ظهرت منذ وقت مبكر من الثورة، وقامت بأدوار بالغة الأهمية، بخاصة «لجان التنسيق المحلية» التي جمعت بين تنسيق الأنشطة الاحتجاجية وبين تغطيتها الإعلامية، وقامت بدورٍ سياسي أيضاً كقوة ثورية شابة، تستمدّ شرعيتها من المشاركة المباشرة في الثورة، قبل أن تقوم أيضاً بدور إغاثي واسع ومهم بدءاً من عام 2012. وفي مرحلة الثورة أيضاً ظهرت الأجسام السياسية المعارضة المعروفة: «هيئة التنسيق» و«المجلس الوطني»، وفي أواخرها ظهر «الائتلاف».

وفي مواجهة الثورة كان العدو أساساً هو النظام بركائزه الأمنية العسكرية المعلومة. تصرف أساساً كنظامٍ امتيازي وتمييزي قمعي، يحاول أن يسحق بالقوة ثورة شعبية تهدد دوامه والمصالح الامتيازية المتطرفة التي يحرسها. ومنذ وقت مبكر أدخل الشبيحة في قمع الثورة، وهم مجموعات إجرامية غير منظمة، كانت قبل الثورة تخضع لسلطة «معلّمين» منحدرين من الأسرة الأسدية أو أسرٍ أخرى بارزة من البيئة العلوية. لكن مصطلح الشبيحة صار يطلق على أي قوى قمع مدنية، تشارك في قمع الثورة، إلى جانب الأجهزة الأمنية التي صارت هي «المعلّم العام» الآن. وفي عامي 2011 و2012 تعمم المصطلح على مجموعات مشابهة في العديد من المدن السورية، من أشهرها جماعة زينو بري في حلب (قبل الثورة كانت تعمل في التهريب وتجارة المخدرات برعاية الأجهزة الأمنية في حلب). انتظم الشبيحة في جيش الدفاع الوطني بمبادرة إيرانية في نهاية هذه المرحلة الأولى، بالتزامن مع الحرب الشاملة والتطييف الشامل في النصف الثاني من 2012.

مظاهرات في داريا. شباط 2012- AP

شارك أيضاً في دعم المجهود الحربي للنظام البرجوازية الجديدة التي تشكلت في كنفه، وتدين بكل ثرواتها لرعايته عقودَها ومشاريعَها وصفقاتها.

عموماً، الصراع في هذه المرحلة كان سورياً سورياً، وما يمكن تسميتها الحرب الأهلية السورية هي الفترة بين صعود المواجهة المسلحة للنظام في خريف 2011 (البدايات الأولى أبكر من ذلك، ومرتبطة كلياً بظاهرة الانشقاقات عن الجيش)، وحتى نهاية 2012 أو مطلع 2013. بدأت تنتهي حربنا الأهلية مع بدء انهيار الإطار الوطني للصراع في منتصف 2012، ودخلنا طور حربٍ فوق سورية، يمتزج فيها البعد الإقليمي مع البعد الطائفي، مع مكونٍ دوليٍ متنامٍ.

قد يعرض سؤال هنا: لماذا انتهت الثورة السورية في مطالع 2013، وليس مع انهيار الإطار الوطني للصراع في النصف الثاني من 2012؟ السؤال وجيهٌ جداً. لكن انهيار الإطار الوطني  ليس شيئاً حدثَ في لحظةٍ محددة، وإنما هو عملية تداعٍ تدريجية، بدأت باستراتيجية الحرب الشاملة الإيرانية (القصف بالطيران وصواريخ سكود، قصف أفران الخبز، بدء استخدام السلاح الكمياوي، التوسع في القتل في المقرات الأمنية…)، واكتملت في ربيع 2013 مع وقوع شيئين: المشاركة المعلنة لحزب الله في حرب النظام من جهة، وظهور داعش إثرَ انشقاق «جبهة النصرة» في نيسان 2013 من جهة ثانية. وأهمُّ من ذلك في رأيي ما سبقت الإشارة إليه، من توقفٍ بقرارٍ غامض (أميركي سعودي في تقديري) لعملية التحرير وإسقاط النظام في دمشق، وهو ما اقترنَ بتصرفاتٍ غريبة جداً من وجه النظر العسكرية: تركُ مطار دمشق الدولي يعمل، وبيعُ طريق دمشق- حلب للنظام بالمال، والانسحابُ من مواقع في قدسيا والهامة. تاه الصراع، ولم يعد له هدف سياسي وطني، واستعاد النظام زمام المبادرة فوراً، وقطع طريق إمداد الغوطة من الشمال باحتلال النظام منطقة العتيبة في آذار 2013.

 

مرحلة الأسلمة

المرحلة الثانية هي مرحلة الأسلمة أو صعود قوى سنية سلفية منظمة، تستفيد من روابط إقليمية سياسية ومالية، وترسّخ نفسها في عقيدتها الخاصة، السلفية، أكثر مما في بيئة محلية أو قضية وطنية. ظهور هذه القوى يتصل بديناميكية العسكرة والتجذر والأسلمة التي ترتبت على مواجهة الثورة بالعنف والمجازر، ورفض الحل السياسي.

كانت قواعد القوى السلفية المنظمة محليةً أساساً، وتحيل إلى فاعلية الدينامية المشار إليها. لكن مزيج التكسّر الاجتماعي الداخلي بفعل العنف، وتكسّر الحدود وتراجع سيطرة النظام عليها، ولّد شروطاً مناسبة لاجتذاب جهاديين جوالين، من شبكة الجهاد المعولمة أو من وافدين جدد إلى السوق الجهادية الدولية. لهؤلاء «إخوةُ منهجٍ» سوريون، سبقَ أن تعارفوا في الساحة العراقية أساساً، وتنامى عدد هؤلاء بعد تسارع انهيار الإطار الوطني للصراع في النصف الثاني من 2012 كما تقدّمت الإشارة.

فإذا كان ما يميز مرحلة الثورة هو الوزن الأساسي للعسكريين المنشقين، على ما تشهد تسمية «الجيش الحر» نفسها، فإن مرحلة الأسلمة تميزت بالأحرى بتهميش العسكريين المنشقين على ما شهدتُ بنفسي في الغوطة الشرقية في مطلع صيف 2013، وتعميم أسماء إسلامية للكتائب والتشكيلات العسكرية. كان المقاتل المحلي المدني قد ظهر في مرحلة الثورة نفسها، ولعل عدد هؤلاء المقاتلين الشعبيين أخذ يفوق عدد العسكريين المنشقين منذ ولوج الثورة طور العسكرة في خريف 2011. لكن مرحلة الأسلمة تتميز بصورة شبه حصرية بالاقتصار على مقاتلين مدنيين، لكن يقودها «مجاهدون»، يشكلون «جيوشهم العقائدية» الخاصة على غرار الجيش الأسدي، أو ما يسمى «الجيش العربي السوري».

لكن هذا لا يلغي أن أكثر «المجاهدين» الجدد ينحدرون من بيئات شعبية، وأن استصلاح لغة الجهاد لا يدل بالضرورة على عقيدة سلفية جهادية. هناك «مجاهدون» يخوضون معركة سورية ضد السلطنة الأسدية، وهناك «جهاديون»، أمميون أساساً، وإن تكن الحدود بين الاثنين سارت نحو الإمحاء تدريجياً.

المنظمات السلفية الأكثر تماسكاً، «أحرار الشام» و«جيش الإسلام»، وأكثر منهما «جبهة النصرة»، تعادي النظام، وتواجهه، لكنها تتطلع إلى فرض نموذج اجتماعي وسياسي بالقوة في مناطق سيطرتها، يعادي المبادرات الاجتماعية واستقلال المجتمع المحلي والقوى السياسية الأخرى. ضربٌ من الشمولية الدينية النخبوية، على غرار شيوعية القرن العشرين. وبينما استفادت هذه القوى من شروط الثورة والاضطراب الاجتماعي والسياسي، فإنها في الواقع نتاج تعثر الثورة بفعل تحطيم القوى الوطنية الشعبية التي انخرطت في الثورة منذ البداية خلال نحو عامين، وهي قوى ضعيفة التنظيم أصلاً كما سبق القول، ومحدودة الموارد. وهذا ما فتح الباب لقوىً عقدية منظمة، استفادت من تهتك الإطار الوطني للصراع، ومن تأثير «المال السياسي» لفاعلين إقليميين. العنصر الريعي كبيرٌ في تكوين الجماعات السلفية، وفي نزع ثورية مجموعاتها.

وفوقَ ضرب القوى الوطنية الشعبية المتطلعة إلى إسقاط النظام، كان النظام نفسه قد دفع نحو الأسلمة بطرق متنوعة، منها الإفراج عن معتقلين سلفيين من سجن صيدنايا في حزيران 2011، ومنها الاستفزاز الطائفي المتكرر في مناطق مثل بانياس والبيضا وحمص، ومنها إكراه سنيين على الشهادة بألوهية بشار أو ماهر، ومنها مشاركة الشبيحة في قمع المظاهرات السلمية في دمشق وحمص. هذا فوق أنه في «سورية الأسد» وفي دول عربية مشابهة لها (حكم سلطاني محدث، «أبدي») كان الإسلاميون هم «المعارضة النوعية». أعني أن التشكيلة السياسة التي تقوم على الحجر السياسي على السكان وعلى «الأبد»، تسهّل إشغال الإسلاميين موقع المعارضة.

ومما عزّز من هذا كله دخول قوى شيعية، إيرانية ولبنانية وعراقية، إلى البلد للمشاركة في مواجهة الثورة. الأسلمة هي أحد وجوه التطييف الشامل للصراع، وتنامي البعد الإقليمي له.

يتعين التمييز مجدداً بين النزعة الإسلامية الشعبية، وهي مكونٌ أصلي لثورةٍ يأخذُ عليها اعتذاريو النظام أنها «خرجت من الجوامع»، وبين مجموعات إسلامية منظمة لديها منهجٌ مفرط المنهجة، وهي متمركزة حول عقيدتها الخاصة كما سبقت الإشارة، وليس حول مجتمع السوريين المعاصر وحاجاته، على نحو ما تجسَّدَ في احتجاجات السوريين السلمية والمسلحة في مرحلة الثورة. المجموعات الأخيرة أقربُ إلى قطيعةٍ مع الإسلامية الشعبية منها إلى استمرارٍ لها، يعزّز من ذلك المال الريعي الخليجي، السعودي أساساً، الذي تعتاشُ بعض تشكيلاتها منه. وهي على مستوى المخيلة أوثق ارتباطاً بشبكاتٍ جهاديةٍ عالمية تعيش في عالمٍ موازٍ، عالم بطولي وعنيف، منفصلٍ كلياً عن عالم حياة أكثرية السوريين. هذا العالم نخبويٌ أيضاً، ليس غير شعبي فقط، بل هو أقلوي وتمييزي عن سابق إصرار وتصميم، ومعادٍ لتصور الشعب ولمفهوم الأكثرية. «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» ومجموعات أخرى شركاء في المخيلة الجهادية، وفي الباراديغم السلفي الجهادي، وإن كانت «مجاهدوها» محليين. مواجهة السلطنة الأسدية والمجموعات الشيعية المساندة لها محققة ومتواترة، لكن سورية إطارٌ عارضٌ لهذه المواجهة، والثورة السورية مجرد ظرفٍ مناسب لها.

من تدريبات حركة أحرار الشام الإسلامية

عام 2013، وقد كان فظيعاً على سوريي الثورة، هو عام الأسلمة التي بلغت ذورتها بإعلان خلافة داعش في حزيران 2014. هذا العام هو عام إكمال ضرب ما بقي من قوى وطنية شعبية ثورية بالخطف والتغييب والاغتيالات على يد داعش وجيش الإسلام وجبهة النصرة. داعش حطمت ما كان بقي من الثورة في مناطق سيطرتها في الرقة ومنبح وحلب ودير الزور، وبمثلها اقتدى جيش الإسلام في الغوطة الشرقية. عام 2013 هو أيضاً عام المذبحة الكيماوية والتفاهم الروسي الأميركي على سحب سلاح النظام الكمياوي، مقابل الترخيص له بالبقاء وعدم الحدّ من قدرته على القتل، وقد كان ذلك طعنةً كبرى للقوى الوطنية الشعبية بقدر ما كان هدية ممتازة لكلٍ من النظام والسلفية الجهادية. هو كذلك عام تحطّم التنسيقيات، والعام الذي تصاعدت فيه سيطرة داعش على الرقة، قبل أن تنفرد بالسلطة فيها في مطلع 2014.

 

المرحلة الإمبريالية

ابتدأت المرحلة الثالثة في أيلول 2014، مع تشكّل تحالفٍ دوليٍ ضد داعش. الفاعلُ الصاعدُ في هذه المرحلة هو دولٌ من الإقليم ومن العالم، والقيادة أميركية. الحرب الأهلية السورية التي انتهت منذ زمن بعيد، قبل أن تحل محلها الحرب السلفية من أجل أرض سلطة خاصة، تحولت إلى صراع دولي يبدو ضد داعش، وضد السلفية الجهادية عموماً، لكنه في واقع الأمر صراع للإمساك بسورية والسيطرة على التفاعلات الجارية ضمنها، والتحكم بالتغيرات فيها بحيث توافق مصالح المتدخلين. تتمايز المرحلة الدولية إلى مرحلة أميركية، وهي مزيجٌ من حرب ضد داعش، و«حياد إيجابي» حيال النظام الأسدي وحلفائه؛ ومرحلة روسية بدأت بعد المرحلة الأميركية بعام كامل، وهي تعمل على سحق كل معارضة للنظام الأسدي، ولا تكاد تنشغل بمواجهة داعش إلّا بصورةٍ ثانوية. ولا يبدو أن هناك أي توتر بين القوتين الروسية والأميركية في سورية، كانت حرب أميركا ضد داعش شبه محصورة في العراق أصلاً، وحلفاء أميركا الأوربيين لم يبدؤوا بأي عمليات قصف جوي في سورية حتى وقوع مجزرة باريس في نوفمبر من هذا العام الآفل (2015)، أما حرب روسيا فهي محصورة في سورية تعريفاً.

وأخمّن أن هناك مساحة مشتركة بين الأميركيين والروس تفسّر تقاربهما في سورية، وتتجاوز العداء المشترك لفكرة الثورة من جهة، وللسلفية الجهاية من جهة ثانية، وهي المساحة الإسرائيلية. إسرائيل هي المنسق العام بين القوتين الاستعماريتين في سورية.

كانت الأسلمة تطوراً مناسباً للنظام الأسدي، سعى إليه بكل قواه، وأعطاه هذا قضية بعد أن كان طوال ما يقترب من عامين بلا قضية. التدويل الشامل، بالمقابل، عزز من قوة النظام من حيث أنه لم يعد مهدداً بالسقوط على أيدي السوريين أو على أيدي أي إسلاميين، وبخاصة من حيث أن سقف التغير المحتمل في سورية في المرحلة الدولية هو التخلي عن بشار، مع بقاء كل شيء آخر على ما هو عليه. لكن التدويل أضعفَ النظام أيضاً من حيث أنه لم يعد اللاعبَ الأبرز في الداخل، وفقد التحكم بمصيره الذاتي، وصار عنصراً في استراتيجيات قوى دولية نافذة، يمكن أن تتخلى عنه حين تجدُ ذلك مناسباً.

ومثلما يمكن الإشارة إلى صعود الفاعل الإسلامي المنظم في وقت أبكر من مطلع 2013 (ظهرت جبهة النصرة في الشهر الأول من 2012، وتشكلت «سرية الإسلام» في أواخر 2011، وستتطور إلى «لواء الإسلام» ثم «جيش الإسلام»)، يمكن أيضاً الإشارة إلى تدويل أبكر من أيلول 2014، وقت شكّلت أميركا تحالفها ضد داعش وصارت طرفاً مباشراً في الحرب في سورية. كانت إيران في الداخل السوري منذ عام 2012 على الأقل، وكانت لقوى إقليمية مثل السعودية وتركيا وقطر والأردن تأثيرٌ مهم شبه مباشر منذ وقت أبكر. وسجّلت روسيا والصين حضوراً قوياً في حماية النظام من الإدانة الدولية في مجلس الأمن منذ عام 2011، فضلاً عن تزويد روسيا له بالسلاح. وأميركا نفسها كانت قوةً مؤثرة طوال الوقت عبر التحكم بما يصل من سلاح إلى الجيش الحر، وعبر الحيلولة دون دخول المقاومة المسلحة إلى دمشق في أواخر 2012، ثم بخاصة عبر الصفقة الأميركية الروسية المشينة، التالية للمذبحة الكيماوية. أما إسرائيل فكانت تضربُ كلما وجدت ذلك مناسباً، ولها دورٌ راجحٌ في التأثير على القرار الأميركي والروسي باتجاه ترك الأمور تسير في سورية نحو تعفنٍ لا أفق لانتهائه، والحيلولة دون تمكّن الثورة من إسقاط النظام.

لكن التدويل الشامل المباشر ارتبط بصعود داعش، وبتوسعها العراقي بخاصة، وما كانت تجري هندسته بضغوط على قوى إقليمية للحفاظ على توازن سوري عقيم، صارت تجري هندسته بتدخل عسكري محسوب، لا يبدو معنياً فعلاً بالقضاء على داعش، بل بدوامه الخاص، وإبقاء داعش حيث هي كيلا يعود جهاديوها إلى بلدانهم، على ما صرح أوباما شخصياً في نوفمبر من هذا العام.

وغير الهندسة بوسائل مسلّحة لمنع الصراع السوري من الانفتاح على حلٍ شبه عادل، تجري هندسة بوسائل سياسية أيضاً للحيلولة دون العدالة في أدنى أشكالها، حتى الأشكال التي كانت ارتضتها قوتا السيطرة المهيمنتان على التفاعلات السورية الجارية اليوم، أميركا وروسيا، في وقت سابق في جنيف عام 2102 (اشترطت روسيا عدم الإشارة إلى بيان جنيف1 في المشاورات التي تمخضت عن قرار مجلس الأمن 2254، والبيان المذكور روسي أميركي أصلاً). اجتماعا فيينا اللذان غُيّبَ عنهما أي سوريين، دون أن يعني ذلك بحالٍ إرادة دولية جدية لفرض حلٍّ يمكن أن تتشكل حوله أكثرية سورية، يَعِدَان بإطلاق «عملية سلام» أسوأ من تلك الفلسطينية الإسرائيلية التي لطالما كانت الولايات المتحدة «وسيطاً نزيهاً» فيها. لا يتعلقُ الأمر بحرمان السوريين من أن تكون لهم كلمة في مصير بلدهم بعد أن جرى حرمانهم من إسقاط نظام يقتلهم، بل يتعداه إلى وضع البلد تحت وصاية قوىً تقول اليوم شيئاً سيئاً وتقول غدا شيئاً أسوأ، ولا ضمانة في أن الأسوأ الذي ستقوله غداً سيكون هو منتهى السوء.

اجتماع بين أوباما وبوتين على هامش مؤتمر العشرين في أنطاليا

وبينما تقرّر وثيقة فيينا الأولى، في أواخر تشرين الأول 2015، «الطابع العلماني» للدولة السورية، فإنها لا تقول كلمة واحدة عن العدالة للسوريين وعن محاسبة القتلة على جرائمهم بحقهم، ولا تذكر كلمة ديمقراطية، ولا تشير من قريب أو بعيد إلى كفاح السوريين من أجل الحرية. وفي هذا الاعتناء بشكل أداة القوة دون اهتمام بحماية الضعفاء، ما يذكّر بأسوأ أشكال الخطاب الاستعماري. لا تفوقُ الوثيقة وقاحة إلا تصريحات بوتين في 17 كانون الأول عن أن عمل قواته في سورية ليس «عبئاً على الميزانية… ويصعب تخيل تمرين أفضل [للقوات الروسية]. وهكذا يمكن أن نتدرب هناك [في سورية] لوقت طويل ودون أي ضرر يلحق بميزانيتنا».

ليس من باب استعادة لغة قديمة، ولا انفعالاً بالأوضاع السياسية والإنسانية الفظيعة في سورية، يمكنُ وصف الطور الحالي من الصراع في سورية بأنه الطور الامبريالي، طورٌ يجمعُ بين السيطرة المباشرة والعدوان الشامل والهندسة العسكرية والسياسية لأوضاع تناسب القوى المسيطرة، وتشكل استئنافاً لمجهود الدولة الأسدية في تحطيم الثورة، فضلاً عن شراكة في الغطرسة واحتقار العدالة. ولعله يوجه هذا المجهود كله إرادة إعطاء درس لشعوب الإقليم والعالم أجمع في مخاطر الثورات. فقط تلزم الإضافة بأن الأمر يتعلق بنهج سيطرة إمبريالية عسكري عدواني، تتشاطرهُ قوىً متعددة، روسيا مثل أميركا، تقرب بينهما، وتقربهما من بشار، الإيديولوجية الثقافوية، هذه التي عنها صدر مرسوم فيينا القاضي بأن يكون للدولة في سوريا «طابعٌ علماني»، وكانت في أساس الخطاب الكولونيالي في كل وقت.

 

حول السلفيين

ربما يثير هذا التحليل تحفظات تتصل باعتبار التشكيلات السلفية معادية للثورة السورية.

بدايةً، لا يصدرُ كاتب هذه السطور عن منطق عقدي، وليس معنياً بخوض صراع عقدي، عقيدة ضد عقيدة. هذا صراع رجعي بجميع أشكاله، وهو في سياقنا العياني مدخلٌ إلى الطائفية.

تصدر هذه التقديرات عن منطق اجتماعي سياسي، ينظر إلى القوة الفاعلة من زاوية دورها الفعلي في صراع الناس من أجل العدالة والتحرر. لقد ساعدت الأسلمة قطاعات من السوريين على امتلاك السياسة، وهذا هو التطلع الجمهوري المحفّز للثورة، وذلك عبر امتلاك الكلام (الخطاب الديني)، والتجمع (التشكيلات المشار إليها)، والسلاح الذي يكسر احتكار المعتدي الأسدي للقوة. لكن في لحظة امتلاك السياسية نفسها، يتم إهدار المضمون التحرري لهذا الامتلاك عبر تسخيره في مشروع نخبوي، أقلوي حتماً، معادٍ للعامة، ومقتضٍ للطغيان، مثل كل مشروع أقلوي. لو حصل أن انتصر هذا المشروع وأمّن على نفسه في أي منطقة، لكان من أول ما يفعله هو تجريد السكان من السلاح، ومراقبة كلام السكان وتجمعاتهم. وهو منذ الآن، وفي شروط الحرب نفسها، يعمل على احتكار السلاح بيد الموالين، وينزع سلاح المقاومين المستقلين، على ما فعل جيش الإسلام في الغوطة الشرقية، وما فعلت جبهة النصرة في مناطق في إدلب.

هناك جمهورٌ من عموم الشعب في التشكيلات السلفية، جيش الإسلام وأحرار الشام بخاصة، لكن يجري التحكم بحاجات هذا الجمهور وشروط حياته، ويُستَخدم المال الريعي والمعتقد الديني في الإخضاع، وهذا في شروط حرب القتل والتجويع من قبل السلطنة الأسدية، الشروط التي تدفع كثيرين إلى التغاضي عن حقوق ومطالب ما كانوا ليتغاضوا عنها في أوضاع مغايرة.

ومما يسوغُ افتراض الخصومة بين التحرر السوري والمشروع السلفي، أن هذا ثائرٌ على «الأمة السورية» أو «الشعب السوري»، وليس على النظام السوري وحده؛ ثائرٌ أيضاً على الكيان السوري ذاته، وليس على هياكل سياسية قسرية مفروضة عليه. يقوم المشروع على تصورٍ استبعادي، يقصي منذ البداية نصف السوريين على الأقل. خلال نحو ثلاث سنوات من الصعود السلفي لم تظهر ولا مرة واحدة، ولا حتى على مستوىً محلي، مبادرة من التشكيلات السلفية تظهر روحاً إيجابية حيال أي مخالفين، أو تتكلم بروح التعاون والشراكة. السلفية عقيدة أنانية، أو عصبوية، توجب حصر الخير داخل الجماعة، وتوجب الشر بحق من ليسوا منها.

ولا يعود ذلك إلا جزئياً إلى الشروط بالغة القسوة للثورة والصراع السوري، يعودُ بالأحرى إلى روح استئثارية تجمع بين ثلاث خصائص خطيرة. الأولى سرديةُ مظلومية، ونظرةٌ إلى العالم مبنية على تسليم مطلق بمؤامرة عالمية مستمرة، ليست أفعالَ تآمرٍ دنيوية، يمكن شرحها بالمصالح، بل كيدٌ وعداءٌ جوهريٌ دائمٌ لا يتبدل، ينبع من تكوين المتآمرين الشرير الثابت بدوره. الثانية تكوين فكري مغلق، بل متحجر، لقادة هذا التيار، يجمع بين نزعة اكتفاء إسلامية في صيغة ظلامية فعلاً (ليست صيغة أن كل ما لدينا خير، بل صيغة أن كل ما هو خير لدينا)، ويعكس هذا التكوين عداءاً للحياة الدنيوية في العالم المعاصر، وتشوشاً حياله وخوفاً منه، ورغبة متأججة فيه، وتطلعاً إلى السيطرة عليه وامتلاكه واستهلاكه. والثالثة مخيلة مشدودة إلى الحرب والفتح والسلطة والاستيلاء والمجد الحربي، ورفض مساءلة النفس، ورفض الانضباط بقاعدة مشتركة مع أي غير، أياً تكن، ونزعة مكيافيللية بالمعنى الشائع، تجعل كل الوسائل مقبولة في خدمة غاية تُرفَضُ مناقشتها بمنطقٍ عقلي وأخلاقي عام.

وهذه خصائص مستخلصة من الممارسة، وليست شيئاً يجده المرء مسطوراً في أي كتاب، وهي تسوّغ كفايةً اعتبار المرحلة السلفية قطيعةً عدائيةً مع الثورة السورية، لا استمراراً لها.

 

خلاصات

هنا خلاصاتٌ أولية لهذا المسح التخطيطي والتقريبي جداً.
أولاً، تلّح الحاجة إلى تفكيرٍ ثلاثي الأبعاد إن جاز التعبير، يقطع مع عادات التفكير ذي البعد الواحد، المتمركز حصراً حول مواجهة النظام أو حول الإسلاميين أو حول قوى السيطرة الدولية. الواقع أن عادات التفكير الديمقراطي التقليدي، ومثله التفكير العلماني التقليدي، ثم القومي التقليدي كذلك، تفجرت على نفسها وانهارت من الداخل، ولم تعد تصلح لا لتنظيم التفكير في وقائع اليوم، ولا في التأثير العملي عليها. وبالقدر نفسه لا يصلح تفكيرٌ ثنائي البعد ينشغل بالنظام والإسلاميين مثلاً، وهو شائعٌ اليوم، يتجاهل صيغ السيطرة الامبريالية الجديدة، إن لم يعتبرها سنداً محتملاً؛ وليس هناك سندٌ واقعي اليوم لتفكير أي جهات ربما تشغل نفسها بمواجهة الإسلاميين والطور الامبريالي المتجدد، استناداً إلى نظام لم تنقذه غير القوتين الامبرياليتين؛ ولا سندَ كذلك لتفكير أي إسلاميين، ربما ينشغل في أحسن أحواله بالنظام والقوى الدولية، مُغفلاً أن «الأمة»، حتى لو اقتصرت على السنيين وحدهم، تعرضت لإذلالٍ على يد إسلاميين بقدرٍ يتجه إلى منافسة النظام.

ما يمكن أن يكون أساساً لنهج تحرري جذري جديد هو تفكيرٌ ثلاثي الأبعاد، يحرر ذاته نفسياً وفكرياً من الركائز الوهمية، السلطنة والسلفية والإمبريالية، من أجل أن يكون قوة فاعلة في التحرر الاجتماعي والسياسي الجذري.

سورية واقعة تحت ثلاثة مشاريع عدوانية لثلاثة قوى عدوانية: المشروع الأسدي، والمشروع السلفي، والمشروع الإمبريالي. التحرّر السوري هو فعل صراعٍ في مواجهة هذه القوى الثلاث، وليس أي اثنين منها.

والواقع أن هذا شرطٌ مأساوي، وليس فيه ما يسرّ بعد تحطيم النظام للقوى الوطنية الشعبية، واستئناف السلفيين العمل نفسه، ثم تولي القوى الامبريالية تحطيم ما بقي من آمال السوريين، لكن من شأن إدراكه أن يجنبنا صدمات مؤلمة. أولُ تحررنا هو التحرر من وهم السند متمثلاً في أي من القوى الثلاثة المذكورة.

لكن من يستطيع مواجهة هذه المشاريع الثلاثة كلها؟ أليس في هذا التفكير ما يخرج التحرر السوري من السياسة كلياً؟ بلى، قطعاً. ولذلك، يبدو لي أن الثقافة هي مجال الجذرية والشمول اليوم. في مواجهة عدوٍ واحد، السلطنة الأسدية، قد تكون الحرب نهجاً مناسباً. في مواجهة عدوين، السلطنة والنخبوية السلفية، ربما تفيدُ السياسة. لكن في مواجهة ثلاثة، السلطنة والسلفية والإمبريالية، هل يبقى لنا غير الثقافة؟ ليس هذا كلاماً مُرضياً، لكن يبدو لي أن جهود التنظيم المفيدة، بل الضرورية، اليوم، عليها أن تبدأ من تشكيل ذاتية متحررة، في تفكيرها ومفاهيمها، وفي قيمها وأخلاقياتها، وفي حساسيتها وخيالها، كأساسٍ لظهورها كفاعلٍ سياسي جديد.

ثانياً، إن الفاعلين الثلاثة لا يتقاسمون التأثير على قدم المساواة، بل هناك في كل طورٍ فاعلٌ مسيطر. لم يعد النظام متحكماً بمصيره ليتحكم بمصير سورية، وهذا بعد أن كانت مواجهته هي «الأمر القطعي» في مرحلة الثورة. ولم يعد الإسلاميون القطب الآخر في صنع المصير السوري، صاروا مثل النظام عنصراً في استراتيجيات آخرين، هم من يتحكمون بمساحة عملهم وبفُرَصِ بقائهم، يضربونهم حين يلزم، ويروضونهم على البقاء ضمن المساحات المقررة، كعنصر مساومة وتسديد للحسابات البينية بين القوى الإقليمية والدولة. ولم يعودوا صناع مصيرٍ مغايرٍ لسورية، ولا حتى لأنفسهم. ولا تشغل كرامة السوريين وحقوقهم موقعاً ولو ثانوياً في استراتيجيات الفاعلين الإمبرياليين، الذين يشكّل سلطانهم القانون الأعم للزمن السوري اليوم. السيادة العليا اليوم للفاعل الإمبريالي، بوجهيه الأميركي والروسي. وهذا لن يستغني عن الحزب الأسدي، ويبدو محتاجاً حالياً للإسلاميين كشرط لاستمرار اللعبة، ربما يجري ضربهم بين حين وآخر، لكن الغرض هو الترويض والتأديب، وليس بحالٍ القضاءُ عليهم، ولا بناء أكثرية سورية جديدة في مواجهتهم (مستحيلة دون طي صفحة السلطنة الأسدية)، ويسندُ بقاء الحزب الأسدي إلى حينٍ قد يوجدُ فيه حزبٌ يماثله تماماً، ولا يغايره إلا بالاسم.

لكن الإمبرياليات تتصارع فيما بينها، وتبدو اليوم أقرب إلى بعضها مما كانت منذ الحرب العالمية الأولى، لكن لا يُستَبعدُ أن تعرض صراعات بين هذه القوى، تتصل بمساحة التأثير والسيطرة على البلد والتحكم بوجهته، ودرجة استتباع الفاعليْن الآخرين فيه، الحزب الأسدي وشركاه، والتكوينات السلفية المستقلة والتابعة، والمعارضة التقليدية المستعدة للتحرك في الهوامش التي يتيحها لها الفاعلون الكبار.

وفي هذا ما قد ينقذ فرص السياسة لقوى التحرر والانعتاق العام.

ثالثاً، لكن مشكلة السياسة تتمثل أساساً في كيفية انبثاق الفاعل المستقل، المتحكم بنفسه والقادر على الانفلات الحقيقي من إكراهات بنية مغلقة يشكلها التفاعل الصراعي لثلاث قوىً غير تحررية. الظروف تتجه اليوم لأن تكون أنسب مع ظهور البنية بصورة أوضح على السطح بعد أن كانت منذ بداية الثورة، ومنذ ما قبل الثورة بسنوات طوال، قوىً غولية تصنع في الظلام مصيرنا وتحدد آفاقنا. عددهم متزايدٌ من يعترضون بجذرية أكبر على القوى الثلاثة معاً، لكنهم اليوم بلا أرض، وبلا سند أو «حامل اجتماعي»، وبخاصة بلا «قصة» جاذبة تخصهم، تثير الخيال وتحفز الهمم. التحدي السياسي الأولي يتمثل في ظهور تيار مستقطِب من شتات القوى الوطنية الشعبية في الداخل والخارح. تيارٌ يتسع لأكبر عدد من الفاعلين المستقلين المتحررين المنتجين، وليس تنظيماً يسعى وراء التجانس والوحدة.

يقتضي ذلك أخيراً استعادة جوهر قضيتنا: ثارَ السوريون ضد نظام طغموي كان يعامل غير الموالين منهم معاملة الأعداء، وجاء الإسلاميون وتعاملوا مع من ليس منهم بالصورة نفسها، والمعاملة السيئة نفسها هي بالضبط ما تكرره القوتان الدوليتان المتدخلتان في بلدنا. القوى الثلاثة أنانية جداً، عنيفة وعدوانية، غير عادلة، ورافضة للمساواة. أولُ التحرر السوري هو بناء القضية السورية كقضية تحرر من عدوانيين ثلاثة.

والمعيار هو المعاملة، لا العقيدة ولا السلطة ولا القرابة.