تتواتر الأنباء عن استعدادات النظام وقوات من الحرس الثوري الإيراني للتصعيد العسكري الهادف إلى السيطرة على الغوطة الشرقية وحلب، وهو تصعيد تؤكد هذه الأنباء أنه سيكون مدعوماً بغطاء جويّ روسيّ يتذرّع صانع القرار الروسي -وهو بصدد تقديمه-بفشل مسار المفاوضات، وعمق الهوّة بين النظام والمعارضة، والتباعد الواضح بين أجندة الروس والأمريكان لحلّ الأزمة السورية.

ولما كان السقوط السريع لعدة بلدات في الغوطة الشرقية إنجازاً مشجعاً للنظام وحلفائه للاستمرار في التقدم وتنفيذ سيناريو التصعيد وخرق الاتفاقات المحلية، فإن صورة المستقبل القريب تبدو شديدة القتامة.

الغوطة التي ظلت عصيّة على النظام سنوات، تسارع سقوط بلداتها في أيام عندما استغلّ النظام اقتتال الفصائل الإسلامية فيها وتحوّل اتجاه بنادقهم بعيداً عن عدوّهم الذي رفعوا راية الجهاد ضدّه.

لم يكن هذا الاقتتال نتيجة مستغربة لمن يعرف بنية تفكير السلفية الجهادية التي تختزل الجواب على سؤال التخلف بابتعاد المسلمين عن الإسلام، وعدم تحكميهم شرع الله في كلّ شؤونهم.

وهي بنية يؤطّرها اعتقاد أساسي تكرّس منذ عصور الانحطاط وما قبلها، عّبر عنه بعض الفقهاء آنذاك بصراحة، فحواه أن لا قيمة كبيرة لخرق الضوابط الشرعية شريطة أن يكون تصورك عن الله تصوراً سليماً لا يشوبه تجسيم ولا تعطيل.

وهو اعتقاد كفيل بجعل الوازع الأخلاقي ضعيفاً لدى صاحبه المعتدّ بتصوره السليم عن الله ولا يعنيه أمر آخر.

يعزّز ما يجري اليوم ما ذهبنا إليه سابقاً من فقر التيار الإسلامي في سورية وتأخره عن نظرائه من التيارات الإسلامية التي استطاعت أن تقدم نماذج لاعتدال سلوكي وايديولوجي في تركيا ومصر وحتى في إيران، رغم كلّ ما شاب هذه التجارب من براغماتية أبعدتها عن شعاراتها الأساسية.

وهو تأخر لم يعدم أسبابه الموضوعية التي مثّل تراجع التيار الديمقراطي أحدها، وهو التيار الذي لم يكن جوابه على سؤال التخلف أقل اختزالية فقد حدّد الجواب بالكلمة السحرية” الديمقراطية” بدون الحفر عميقاً في بنية الواقع المراد استنباتها فيه.

فات هذا التيار أن نظرية سياسية ما -مهما كانت درجة تماسكها المنطقي-لا يمكن أن تأخذ فرصتها في الوجود والاستمرار ما لم يكن من ضمن متغيراتها طبيعة المجتمع ومنظومته الأخلاقية وأعرافه وموروثه وسيرورة تشكله التاريخية.

إن عظم المصاب المتمثّل في تراجع المعارضة أمام النظام، وتراجع فرص الحل السياسي في المستقبل القريب يشيران إلى أن ثقباً اسود ينتظر مستقبل سورية كدولة ومجتمع، فالفوضى التي كنا نتوقع أن نراها بعد سقوط النظام بسبب عدم وجود قوة تلمّ شتات ما تفرّق، وتكاثر الفصائل المسلحة في طول البلاد وعرضها، لم تنتظر وأطلّت بوجهها القبيح قبل رحيل النظام.

هذا الثقب الأسود هو ما ينبغي أن نشحذ أسلحتنا ونعدّ عدّتنا لمنعه من ابتلاع مستقبلنا.

ليس بدعاً القول إن التعويل على إدارة أوباما أصبح غباء سياسياً لأن الرجل لا يعنيه من أمر سورية إلا الإرهاب، وقد قدّمت له الفصائل المتقاتلة تأكيداً على أن الجذر الإيديولوجي والتناول العملي لديها ليس مغايراً بالكلية لنظيريهما لدى داعش، وإن اختلفت التفاصيل وافترق نوع الخطاب، وهو ما يفيد منه بلا شكّ حليف النظام الأقوى بوتين الذي يصرّ على وصم الفصائل الإسلامية كلّها بالتطرف.

في انتظار الرئيس الأمريكي الجديد الذي ينصح المستشارون الأمريكيون أن يكون أكثر حزماً في المسألة السورية-وهو أمر مشروط بشروط كثيرة تخصّ أولويات السياسة الأمريكية-علينا أن نراجع تجربة السنوات التي تصرّمت وندرك حجم ما ارتكبناه من أخطاء.

إن التقارب السياسي مع حملة الفكر السلفي الجهادي لا يثمر، ما دامت أدوات التيار  الديمقراطي المعرفية ووسائله المادية لا تتيحان له فرض علاقة نديّة، والأخيرة لا تتحقق ما دام بعيداً عن خلق حقل تداولي مشترك مع الجمهور.

إن الادعاء بنبذ الأيديولوجيا أكثر خطورة من التمسك بها، فقد قارب شعار الديمقراطية الذي حلّ محلّ الإيديولوجيا اليسارية والقومية أن يتحوّل هو إلى إيديولوجيا لكثرة ما سبّح بحمده وأصبح أقنوماً يحمل كل متبنّ له تصوراً مشوباً برواسب الإيديولوجيا.

فإذا كان الإسلاميون -كما نوّهنا-لا يعتدّون إلا بنقاء عقيدة التوحيد التي لا يدركون علاقتها الجدلية مع الواقع وتأثّرها بشخصية من يحملها (فقد جاء في الأثر أن كل إنسان يأتي يوم القيامة وهو يحمل تصوره عن الله المستمد من بيئته وخلفيته المعرفية على كتفه) فإن حملة شعار الديمقراطية أيضا قد حوّلوها إلى مقدّس لا يقوون على إنزاله من علبائه، فكان الأولون – رغم فواتهم-أكثر عقلانية لاختلافهم على تصور غيبي، بينما عبّر الأخيرون عن بؤس اختلافهم على شعار طبّقته شعوب أخرى وحوّلته إلى أسلوب حكم وحياة.

ما نقترحه أن نعيد جدل العلاقة مع الشارع بدون استرضاء متكلّف لمن حوّل السلاح إلى صدر أخيه، ما لم يعد توجيه بندقيته بالاتجاه الصحيح، وأن ندرك -كخطوة أولى-ضرورة ضخّ روح جديدة في الشارع الثوري بمفردات تتمفصل مع قاموسه، وبرامج قابلة للتحقق لا تقتصر على النشاط السياسي والعسكري والإغاثي، وإنما يكون في بؤرتها النشاط المعرفي بمشتملاته المختلفة.

لعلّ في اقتتال الفصائل في الغوطة إيجابية واحدة تتمثل في جعل ما كنّا نظنه مستقبلاً حاضراً ماثلاً بكلّ قبحه وبكل عريه المخزي.

إن الثقب الأسود ينتظر مستقبلنا، فلا رفاهية في الوقت نمتلكها لا في انتظار رئيس أمريكي جديد، ولا في النوح والتذمر على تقاتل الإخوة علّهم يرعوون عن غيّهم.

إن المبادرة لإعادة التموضع الصحيح للتيار الديمقراطي بفهم جديد وبرنامج جديد وقاموس جديد هي المركبة التي نمنع بامتطائها الثقب الأسود من ابتلاعنا.

رئيس التحرير