بينما كانت اجتماعات ترامب بأركان إدارته تتوالى، إثر تغريدته/القرار بسحب القوات الأمريكية المتواجدة في سورية، وتسليم سورية لمن يريدها، وتبعها إقالة كل من وزير خارجيّته تيلرسون ومستشاره للأمن القومي مكماستر، والمرجّح أن ذلك ردّ على ما تقرّر في قمّة أنقرة (روسيا، وتركيا، وإيران)، وعُدَّ تنصّلاً روسياً، وخروجاً على تفاهمات سابقة، قام الكيماوي رئيس العصابة الأسدية بمغامرته الأخيرة في “دوما” ردّاً على رغبة ترامب، وتحدٍّ صارخ لسياسته السورية، وفي ذكرى ضربة الأمريكان لقاعدة “الشعيرات” العام الفائت بعد استخدامه الكيماوي في “خان شيخون”.
ولكن.. لماذا وقد حقّق كما “يزعم” انتصاره الأخير في “دوما”، وصار حُكْم دمشق وريفها له؟ سؤال تتناقض احتمالات إجاباته، إذ أنكر الفِعلة كالعادة، بل اعتبر الاتّهامات مجرّد فبركة وأسطوانة مشروخة مملّة، أمّا إيران فرأتها تمهيداً وتبريراً لضربة عسكرية للنظام، علماً أن روسيا روّجت لضربة عسكرية أمريكية منذ شهرين، وأكّدت أن الإرهابيّين سيستخدمون السلاح الكيماوي لاتّهام النظام وتوريطه!؟ لتأتي المفاجأة من إسرائيل التي بادرت وسبقت الجميع بضرب قاعدة التيفور الجوية؛ لأن الطائرات المنفّذة قد أقلعت منها، وحجزت بذلك دوراً لها فيما سيكون من تطوّرات.
إن إقدام النظام على استخدام براميل متفجّرة محمّلة بخلطة الكلور والسارين، في وقت توقيع روسيا اتفاقاً مع جيش الإسلام على الخروج من “دوما”، ليس مجرّد طيش أو عبث، بل الأرجح أنه رسائل لمن يهمّهم الأمر، وخلط لأوراق يتمّ إعدادها، فتقول الأولى إننا ننظّف الغوطة من الإرهابيين وحاضنتهم، والثانية تحكي إن إيران لا يهمّها ما التزمت به روسيا من شروط وضمانات لجيش الإسلام، والثالثة تروي قصة التحدّي، وإن النظام منتصر وقادر على التحكّم بمآلات الأمور، إن كان هناك مَن يعمل على إعداد بدائل لرأس النظام.
لقد كان إعلان ترامب رغبته الانسحاب من سورية، مناورة لابتزاز الأطراف المتصارعة، إذ راحت تفكّر ببدائل ملء الفراغ، واصطناع اصطفافات أو تحالفات واتّفاقات تحفظ لهم، وتحمي مكاسبهم، ودليل ذلك أنه انتقل في تغريداته -القرارات- إلى نغمة التهديد والوعيد، فأعلن أن النظام السوري سيدفع الثمن باهظاً، بل حمّل روسيا وإيران مسؤولية تصرّفات الأسد الرعناء، والأكثر من ذلك جَعْلُه أوباما مسؤولاً عن ذلك لسماحه بتجاوز الخطّ الأحمر الأمريكي في 2013، بينما يجب ألّا تُخترق خطوط ترامب، وكان ردّه الناعم بعد كيماوي خان شيخون إبلاغياً تحذيرياً، وكان متوافقاً مع جون ماكين الذي رأى أن التقاعس الأمريكي شجّع الأسد على شنّ هجوم كيماوي على “دوما”؛ ولعلّ توهّم النظام ومساندوه في المعرفة المتوقَّعة لمدى ردّة فعل ترامب، بالإضافة لاختبار جدّية المجتمع الدولي في اعتماده وكيلاً حصرياً دون المساس به مهما كانت أفعاله، أسّس لوضعهم في الحَرَج، ودفعهم للبحث عن مخارج، بعد قيام حلف دولي يعمل لعقاب النظام على فِعلته، فتسابق الجميع صوب مجلس الأمن، لتتساقط القرارات، ويطفو الفيتو الروسي للمرّة السادسة، حماية للنظام من إجراء دولي ضدّ استعماله السلاح الكيماوي، وتفشل مشاريع الروس في مجلس الأمن، ويتكاثر المندّدون بثلاثي الجريمة(روسيا وإيران والنظام)، والمتباكون على الدم السوري، وكأن القتل بغير الكيماوي منذ سبع سنوات لا علاقة له بجريمة اليوم!
وبعد أخذ وردّ حول جدّيّة القيام بضربة للنظام، كان تصريح هيلي بأن أمريكا ستردّ على الهجوم الكيماوي بمجلس الأمن أو بدونه مؤشّراً حاسماً، لينتقل التكهّن إلى حجم الردّ الأمريكي وفعاليّته، وتتراسم السيناريوهات وتتعدّد احتمالات أثر المخرجات على الوضع السوري إقليمياً ودولياً، بعد أن حُمّلت روسيا وإيران مسؤولية ما يجري، ليتبادل الجميع التحذيرات ممّا سيترتّب على عمل عسكري كبير أو تدخُّل ضد النظام، لذلك دأبت روسيا على جعل مجلس الأمن منصّة لإقرار شروطها، وكبح جماح الآخرين، وبالتالي تحقيق انفراج برسم حدود ارتضتها كل الأطراف، تجلّت بانسحاب القطع البحرية الروسية من قاعدتي طرطوس واللاذقية، مفسحة المجال للضربة متقيّدة بقواعد الاشتباك والتنسيق المعمول بهما، ونقل أجهزة ومعدّات للنظام إلى حميميم، وكذلك بعض الشخصيات المهمّة المستهدفة، لتكون الضربة/الردّ تكتيكية وعقابية ومحدودة عسكرياً، فلا تهدف إلى إسقاط النظام كما روّجت موسكو، ولا تغيير المعادلات على الأرض، فما زال وجوده مفيداً ولما يُستَنفذ دوره! وهو ما يؤكّد توظيفها السياسي، إذ ساهمت في تحريك الساحة الدولية صَوب وضع حدّ لاستفراد الرؤية الروسية بمصير سورية، ولجم طموحاتها خارجها، وتعطيلها دور مجلس الأمن وشلّ فاعليّته، واتّهامها بالمشاركة في كلّ ما حدث، وأنه بإشرافها المباشر عبر تهجيرها المدنيين وحمايتها النظام، وعرقلتها العمل على تحديد المسؤوليّات وعدم الإفلات من العقاب.
إن العملية العسكرية التي قامت بها ثلاثة الدول دون قرار من مجلس الأمن، تهدف أيضاً إلى كسر إرادة بوتن وإهانته، وإعلام الروس ببداية مرحلة جديدة، قُبيل انتهاء الحرب على داعش واجتثاث الإرهاب، وهي بدء العدّ التنازلي للتمدّد الإيراني في سورية والمنطقة، وهو الهدف الإسرائيلي، إذ في اليوم التالي قامت إسرائيل باستهداف مقرّ لتجمّع ميليشيات إيرانية(عران)، ليتّسق مع رؤية أمريكية أوربية، تعمل جدّياً لإعادة الملفّ السوري إلى جنيف مجلس الأمن، والعمل على ترسيم خارطة طريق تحقّق الانتقال السياسي المنشود قبل انعقاد قمّة دول “أستانا” في طهران قريباً، والتي ستفتح جبهة جديدة يتردّد الفاعلون فيها بين إدلب وما تبقّى من ريف حمص وحماة، ولن يتردّد ترامب في تغريدة على تويتر، وقد حشد حوله بومبيو وبولتون وهيلي، بأنه لن ينسحب دون تحقيق أهدافه، وسيعاقب بشدّة أكبر-مستقبَلاً- مَن يقف ضدّ إرادة أمريكا.