افتتاحية الموقع: اجعلوا التاريخ يكرج بملاسة!

0
1401

الحراك الشعبي ضد النظام الاستبدادي في السودان، ولا يمكن أن تكون ذا مسكة من عقل ما لم تتعاطف مع شعب يطالب بالخبز والحرية والكرامة بعد عقود من الطغيان والتجهيل والقمع.
ولكن ينبغي عليك ألا تذهب بعيدًا في عواطفك وأن تبحث عن عوامل كامنة للانفجار غير منطوق بها، فإبان الحرب بين النظام السوداني والجيش الشعبي لم يتورع قادة هذا الجيش عن التنسيق مع قوى خارجية يؤكد كثير من الباحثين الموضوعيين أن من بينها الكيان الصهيوني، و لم يرف لهم جفن وهم يجعلون العنف في التعامل مع الشماليين بديلًا وحيدًا فأسكتوا كل الخطابات البديلة للعنف عن طريق تدمير كل المؤسسات الوسيطة التي يمكن أن تقف حائلًا بينهم وبين مجنديهم كالعائلة والقبيلة وحتى الدين.
كما عمل قادة الجيش الشعبي على تجريد العنف من كل مستلزماته الروحية والاجتماعية؛ من أجل خلق اعتقادات بديلة تبرر العنف ضد الحكومة، فلا حاجة حسب برنامجهم لتعويض دم القتلى، ولا إلى ترسيخ ذكراهم، ولا إلى تنقية القاتل؛ لأن الحرب ضد الحكومة حرب عادلة لتحصيل حقوق، وهو ما نجحوا في تكريسه لدى مجنديهم الذين تبنوا هذه الاعتقادات.
وبالطبع لا يصلح لتفسير هذا -فضلًا عن تبريره- اختزاله في معركة حريات، ففي العمق صور نمطية لكل طرف عن الآخر يساهم في تشكيلها الدين والإثنية وغيرهما.
فقد كانت الصورة النمطية عن الضحايا المدنيين في دارفور الذين يتحدرون من قبائل يطلق عليها اسم قبائل “الزرقة” تقوم على عدهم بشرًا ذوي قيمة إنسانية أدنى، وهم من أصول غير عربية، أجلاف ووثنيين ويحق استعبادهم واسترقاقهم.
بينما ينظر الجنوبيون إلى الشماليين على أنهم بشر مأزومون ينتمون إلى أب عربي وأم إفريقية، وعندما يبحثون عن أبيهم في المرآة لا يجدون إلا أمهم الإفريقية، ومع ذلك يصرون على أنهم عرب أصلاء. بينما ينظر إليهم العرب الآخرون فلا يرون فيهم غير أمهم الإفريقية.
إنهم يقمعون أمهم ويتماهون مع أبيهم وهم يمارسون عملية القمع هذه مع ذواتهم ومع الآخرين من الأفارقة من غير العرب.
ومن غير المجدي عدم الأخذ بالاعتبار تهتك المنظومة الأخلاقية العالمية التي أدانت مؤسساتها القضائية النظام السوداني ورأسه، وبقيت إدانتها بلا فاعلية فهو لا يزال على عرشه، ولا يزال يمارس هواية الرقص بالعصا وهو واقف على جماجم أبناء شعبه.
وبالمقابل لم تدن هذه المؤسسات قادة الجيش الشعبي الذين ارتكبوا من الجرائم ما لا يحصى في ازدواجية باتت صبغة أساسية للقوى الكبرى المتحكمة إلى حد كبير بالمؤسسات الدولية.
ولأن الدروس المستفادة من التجربة السورية هي من أغنى الدروس وأنفعها لمن يريد أن يتبصر، فإن معركة الحريات إذا أريد لها أن تكون وتثمر، فإن أول شروطها ألا تقوم على أحقاد متجذرة في دوافع ثأر، وفي نوازع عصبية دينية وإثنية.
ومن شروطها ألا يحتكر قيادتها مؤدلجون دينيون يحتكرون الحقيقة ويعاني قسم منهم حقدأ مزدوجًا على النظام وعلى الشعب، أو مؤدلجون “حداثويون” لا يزالون يتحركون بوحي منظور حتمي للتاريخ كانت كل دالتهم على أحد رموزه أنهم استسمحوه على لسان أحد منظريهم بقبول عبارة أن التاريخ يمكن ألا يكرج بالقدر المطلوب من الملاسة.
والحال أن التاريخ قد تسربل بالدم ليس لضعف ملاسة طريقه، وإنما لكثرة ما تعثر ووضع في طريقه من مطبات، ساهم هؤلاء بتخندقهم وبعبادتهم لأصنامهم في وضعها.
لا نطالب المنتفضين بما هو فوق الطاقة إذا ناشدناهم الاستفادة من تجربتنا، حتى لو كان المستخلص من هذه الاستفادة إعادة الحسابات إلى أن تنضج الظروف المواتية المحلية والإقليمية والدولية، فالفاعل هو الذي يصنع للتاريخ طريقًا أملس، وهو الذي يكبه على وجهه عند كل خطوة إذا اندفع على غير هدى.

رئيس التحرير