القدس العربي

يعيد الاهتزاز السياسي الكبير الذي صنعه اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي إلى الذاكرة موضوع حوادث الاغتيال الشهيرة التي نفذتها الأنظمة العربية لمعارضيها، ويحضر في هذا المجال حادثا اغتيال شكلا جرحين غائرين في التاريخ السياسي العربي ويحملان تشابهات عديدة مع حادثة اغتيال خاشقجي، فقد حصلا في مكان خارج بلدي الضحيتين، واكتنف الغموض تفاصيلهما، وتعددت روايات القتل والتعذيب وطرق التخلّص من الجثة حولهما، واتهمت أطراف سياسية وأمنية عديدة بالمشاركة فيهما.
أول هاتين الواقعتين تتعلّق بالزعيم الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو الذي ألهبت رواية تعذيبه وقتله وتذويبه بالأسيد خيال الساسة والناشطين العرب واعتبرت نقطة حالكة في تاريخ السياسة العربية.
يوصلنا التمعّن في التفاصيل إلى تشابهات كبيرة للحلو مع خاشقجي، رغم اختلاف سياقيهما السياسيين، وانتماءاتهما الأيديولوجية، فبعد عقود من مرور الحادثة التي جرت عام 1959، استعيدت معلومات مهمّة عن الحلو، منها على سبيل المثال، موقفه المتميز المنتقد لموقف الاتحاد السوفييتي من الاعتراف بدولة إسرائيل، وهو ما أدى إلى تخفيض رتبته الحزبية ونيله عداء موسكو والقيادة الستالينية للحزب الشيوعي السوري ممثلة بخالد بكداش، الأمر الذي لعب دوراً، حسب تحليل كثيرين في طلب القيادة منه الذهاب إلى دمشق (في الوقت الذي كان فيه بكداش هاربا في براغ) حيث اعتقل وتم اغتياله من قبل رجال عبد الحميد السرّاج، ضابط الأمن السوري الشهير، محلّ ثقة الرئيس المصري جمال عبد الناصر أثناء فترة الوحدة السورية ـ المصرية.
تتعلق الحادثة الثانية بخطف واغتيال الزعيم المغربي الشهير المهدي بن بركة، وهي واقعة هزّت أركان الحياة السياسية في المغرب وتركت أثرها التراجيدي على اليسار المغربي والعالمي لما كان لشخصية بن بركة من تأثير عابر لبلاده واعتبرت ذروة كبيرة في العلاقة الشائكة بين الأحزاب السياسية والأجهزة الأمنية في المغرب.
وكما كان للحلو أعداء كثيرون، فقد تشارك في اتهام خطف وقتل بن بركة (في الشهر نفسه الذي خطف وقتل فيه خاشقجي ولكن قبل 53 عاما) أطراف محلّيون وأجانب كثر، فاتهم الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية آنذاك (والذي سيقوم بانقلاب لاحقا على الملك الحسن الثاني عام 1972)، وأحمد الدليمي، مدير المخابرات، بالتخطيط لقتله، الذي شارك فيه، كما تؤكد روايات متطابقة، الأمن الفرنسي، وعناصر من الموساد الإسرائيلي (وأيضا المخابرات الأمريكية)، ولأن الجثّة لم تكتشف أبدا، فقد ذكرت روايات عن رميها في نهر السين وكذلك عن إذابتها بحامض الأسيد.
أظهرت صحف إسرائيلية عديدة انزعاجها من إمكان تأثير اغتيال خاشقجي على وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وخصوصاً على دوره فيما يسمى تمرير «صفقة القرن» (وهذا الانشغال السعودي بتداعيات الاغتيال قد يفسّر ربما انتقال النشاط الإسرائيلي إلى عُمان حاليّا)، وهذا يوضّح تشابهاً غريباً في الاغتيالات الثلاثة حيث نجد فيها اجتماع مصالح محلّية للتخلّص من شخصيّة سياسية مؤثرة مع دخول إسرائيل على الخطّ.
عامل آخر جدير بالانتباه إليه وخصوصاً في حالة الحلو وهي أن دولة الوحدة السورية ـ المصرية كانت ترفع شعارات الاشتراكية والوحدة والحرية، وقد استخدمت تلك الشعارات، والجماهيرية التي تمتّع بها الحكم الناصريّ، للقضاء على كافّة أشكال المعارضة في مصر وسوريا، الشيوعية منها والإسلامية، وكان ذلك أحد مقاتل النظام الناصريّ (ونظائره العربية الأخرى) الذي تلقى هزيمة مذلة عام 1967 ساهمت في تفككه ومآله إلى ما صار إليه اليوم.
أمر مشابه يحصل في السعودية التي يرفع وليّ عهدها شعارات الإصلاح والحداثة في الوقت الذي يصفّي فيه كل خصومه السياسيين أو من يختلفون معه بالرأي من كافة أصناف الطيف السياسي، وهو أمر يتنافى بشكل جذري مع أي فكرة إصلاح أو حداثة أو تقدّم، وهو الآن، يعيد تكرار ما فعلته مصر الناصرية ولكن بشعارات براقة أكثر لكنها تخفي تحتها معدن الاستبداد الصلب.
لقد استبدل الأسيد التقدمي بالمنشار الإصلاحي ولكن النتيجة واحدة.