إستراتيجية “الاحتواء” التي تمثّلت في السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وأُعيد إنتاجها بنُسخ عديدة وأسماء مختلفة، وتطوّرت أبعادها عمّا كانت عليه عند مبتدعيها والمؤمنين بجدواها، قامت أساساً على خنق الاتحاد السوفييتي وعزله؛ للحدّ من نفوذه وانتشار أيديولوجيّته، وليس فقط بتطويقه بالأحلاف والقواعد العسكرية، وإنما بالعمل على انهياره بعد تآكله من الداخل _ بمفاعيل ثقافية واقتصادية وفكرية…_، فعُدَّت بذلك سياسة دفاعية، تختلف عن سياسة “ملء الفراغ” الهادفة إلى بسط السيطرة بالقوة العسكرية أو بالتهديد باستخدامها، وقد تمثّلت بسياسة “حافة الهاوية” أو “الردع النووي” أو “الرَّد المَرن”، فصُنِّفَت سياسة هجومية.
وعلى ذلك فإن الاحتواء فعل وقائيّ اعتمدته واشنطن، وما زالت، في تعاملها مع القضايا الدولية التي تقتضي اشتباكاً يمكن تأجيله أو تغيير أدوات التعامل معه أو تحويل مخرجاته لخدمة قضية أخرى، ربما يُنظر إليها على أنها هامشية أو غير جوهرية، كما فعل كيسنجر الذي ارتكز على أسلوب المفاوضة ضمن الاحتواء بدلاً من المواجهة، التي تهدف بكل ألوانها إلى ترويض الخصم أو التقليل من خطره أو لجم جموحه و استيعابه. فالاحتواء بنوعيه ( الدفاعي والهجومي) درجات تتراوح بين التطويق والاستقطاب والاختراق والتهميش والتمييع والتشتيت، وغير ذلك، أو التبنّي كما هو الوضع بالنسبة لإسرائيل.
أساس الاحتواء “شيطنة” الخصم، لإرغامه على خيارات ما أو التحايل بدفعه ليتبنّى خيارات أو طروحات لا تصبّ في مصلحته بل في مصلحة الآخر، فكانت ثمرة “الحرب الباردة” انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد الحامل الأيديولوجي لقوّته.
لكن الوضع العالمي الجديد “أحاديّ القطب” أفرز تمرّداً هنا ومروقاً هناك، فكانت سياسة “الاحتواء المزدوج” التي اعتمدها كلينتون تجاه العراق وإيران؛ لإنهاك الطرفين وتبديد مواردهما _وكذلك فعل أوباما تجاه إيران والسعودية_ لتأخذ بعد ذلك تسمية ذات طابع لاهوتيّ عند جورج بوش الابن بما أُطلق عليه “محور الشرّ” بعد 11أيلول 2001، المؤلَّف من إيران والعراق وكوريا الشمالية، فصار “ثلاثياً” أو مركّباً مشفوعاً بـ(إمّا) معنا أو ضدّنا، فينقل أمريكا إلى الحروب المباشرة باحتلاله أفغانستان ثم العراق، وتصبح أمريكا بذلك مرجعاً في تحديد الصواب والخطأ، وهي تلعب دور المايسترو في السياسة الدولية.
لقد حقّقت إستراتيجيّة الاحتواء، والحرب الباردة فخر مخرجاتها، سياسياً وعسكرياً نجاحات مبهرة لأمريكا، ولكنها أيضاً دفعت بعض ضحاياها لـ”التنمّر” _اقتصادياً (الصين)، وعسكرياً (روسيا) وريثة الاتحاد السوفييتي_، بعد أن اطمأنّت لقدرتها وقوّتها وانكفائها عبر سياسة “أوباما” فيما سُمّي “القيادة من الخلف” في مختلف المشكلات الدولية، ثمّ في ” الصبر الإستراتيجي” تجاه ملفّي إيران وكوريا الشمالية، و”غضّ الطّرْف” في سورية والعراق، وكلها مشتقّة من “إستراتيجية الاحتواء”.
هذا الوضع الجديد أغرى روسيا بمغامرات محدودة، قامت بها في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم لأسباب ظاهرها قومي واقتصادي، ولكنها في العمق ردّ على نشر الدرع الصاروخية لحلف الناتو، فكانت المواجهة لها بمزيد من العقوبات الاقتصادية، فنقلت أدواتها في الصراع إلى سورية إبان قيام الثورة السورية لتكون داعماً عسكريّاً ومسانداً دبلوماسياً وسياسيّاً لنظام مافيويّ استبداديّ، هو الأكثر شَبَهاً بها على الرغم من مساحيق الديمقراطية التجميليّة، ليتحوّل الدعم والمساندة إلى “احتضان” بعد توقيع معاهدة حصل الروس بموجبها على قاعدتي حميميم وطرطوس، وعندما أشرف النظام على السقوط، كان التدخّل العسكري المباشر في أيلول 2015، لتبدأ روسيا مرحلة جديدة في صراعها مع الغرب وأمريكا بالاعتماد على “إستراتيجية الاحتضان”، وهي على النقيض من إستراتيجية الاحتواء، وإن استخدمت تكتيكاتها، فقد قام الروس عبرها بـ”مَلْكَنة” النظام السوري، لا شَيطنته، ورعايته لا نبذه وتهميشه، ووضعه تحت حمايتهم عسكرياً: بإقامة مروحة تفاهمات واتّفاقيات وتوافقات للتنسيق العسكري مع مختلف القوى المحلّية ( جيش النظام والميليشيات التابعة له)، والإقليمية ( إيران وتركيا وإسرائيل )، والدولية ( أمريكا والصين وأوروبا ). ثم انتقلت لاستثمار الإنجازات العسكرية في الإطار السياسي بالدفاع عنه في مجلس الأمن والمؤتمرات الدولية وفتح مسارات جانبية معه والترويج له، وتيسير وتسيير علاقاته الدولية، وكان سلاحها الأول في مجلس الأمن الدولي استخدام الفيتو(11مرة) حتى الآن، أمّا القرارات التي مرّرتها(3قرارات)، فهي تنفيس للاحتقان الدولي من جهة، والقيام بتفريغها من مضمونها بفرض القراءة الخاصة لها بما يضمن مصلحتها وسلامة النظام، وبذلك امتلكت روسيا القرار السوري تنسيقاً وقبولاً ورفضاً، بل هي التي تقرّر أولاً، إن كان في مؤتمر جنيف (9نُسَخ)، أو أستانا (ثماني نُسَخ)، أو النسخة اليتيمة لمؤتمر (سوتشي)، الذي رَمَت من الدعوة إليه نقل الملفّ إلى مسار موازٍ لمؤتمر جنيف، ثم تعمل لاحقاً على سحبه من مجلس الأمن، لتكون القضية السورية مشكلة داخلية تتعاون مع النظام _ وحلفائهما الدوليين والإقليميين_ في إيجاد الحلول لها، عبر التحالفات _ المَرحليّة والمَصلحيّة_ والتوافقات والمصالحات وتغيير البنية الديمغرافية من خلال التهجير القسريّ.
بأساليب “الاحتضان” ذاتها في سورية مع التعديلات اللازمة تقوم روسيا باحتضان إيران، فتنفي شيطنتها وتشاركها الحرب على الإرهاب في المنطقة، وتعمل في السرّ والعلن على تنمية قدراتها العسكرية وتطويرها، وتميّع الضغوط على ملفّها النووي، بل تساعدها تقنياً، وتسهّل اختراقها للعقوبات الاقتصادية، بل تعينها، وتحميها في مجلس الأمن سياسياً بالفيتو كيلا يطالها عقاب أو حساب لخرقها الاتفاق النووي وتزويدها الحوثيين بصواريخ بالستية تهاجم بها السعودية. فأمّنت بذلك على حيازتها إيران وما حولها، فهما حليفتان في سورية وتعملان معاً في أفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز، ولن يكون بمقدور إيران في الوضع الراهن المضيّ قدماً في مشاريعها دون مساندة ودعم الحليف الروسي القوي المقتدر.
فمن خلال سورية التي تتموضع فيها أكثر من نصف قرن قادم، تحقّق حلم قياصرتها ووصلت المياه الدافئة، واقتربت من تركيا وتحالفت معها_ وإن مرحلياً_، وأرضَت إسرائيل ونسّقت معها وشكّلت حائط صدّ لها، وسيكون الأمر كذلك فيما يخصّ اليمن، وكذلك ليبيا قريباً.
روسيا بوتين تعتزم من خلال “إستراتيجية الاحتضان” قطفاً سريعاً لثمار استراتيجية سياسية واقتصادية اعتماداً على الموقف الجيوسياسي الجديد لها، وترسيم عالم جديد يحمل بصمتها، فتستعيد أمجاد الإرث القديم المندثر، والقريب الماثل في الأذهان اليوم، فتطيّر للعالم رسائل تفوّقها العسكري وأنها سمسار القوة الرادعة، وكذلك أهليّتها وقدرتها على حلّ ما استعصى على العالم، وهي بذلك تعلنها حرباً باردة جديدة، تسبح في دم سوريّ ساخن.