كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

لم تكن المصادفة وحدها هي التي تقيم الصلات، اليوم، بين توقيت انتخابات البرلمان الأوروبي، التي كانت أبرز نتائجها تعزيز مواقع اليمين المتطرف والعنصري والشعبوي؛ وتوقيت نشر نسخة 2019 من التقرير السنوي الذي تصدره المفوضية الأوروبية حول آفاق أو عوائق انضمام تركيا إلى الاتحاد، والذي ينتهي إلى خلاصة أكثر سلبية من تقرير العام المنصرم. فإلى جانب الفترة القصيرة التي شهدت تلازم التوقيتين، كان ثمة ذلك القاسم المشترك الأعظم الذي يربط بينهما خارج نطاق الزمن الراهن؛ أي حال أوروبا المعاصرة مع شرائح واسعة من مواطنيها، لا تنتمي إلى الإرث اليهودي ــ المسيحي؛ تاريخياً أوّلاً، ثمّ ثقافياً على الأقلّ، إذا لم يؤخذ العامل الإثني في الاعتبار.
المواطن الأوروبي من أصول تركية صوّت، في ألمانيا أو فرنسا، بناء على اعتبارات شتى محلية الطابع بالضرورة، يمكن بهذا المقدار أو ذاك أن تنفتح في إطارها العريض على هواجس أوروبية عامة؛ لكنه لم يصوّت استئناساً، وعلى نحو مباشر وارتباطي، بما جرى في انتخابات بلدية إسطنبول، أو بإشكالية سلطات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو بسياسات حزب «العدالة والتنمية»، سواء اتفق معها أو اختلف. في عبارة أخرى، يندر أن يكون هذا المواطن قد اختار التصويت لهذا النائب الألماني أو ذاك الفرنسي لأنّ الأخير مؤيد متحمس لانضمام تركيا (فالبند ليس ساخناً بما يكفي على البرامج الانتخابية)؛ ولكن يندر أيضاً أن يكون المواطن إياه قد صوّت لحزب يبدي كراهية صريحة للمهاجرين واللاجئين، مثل «التجمع الوطني» في فرنسا، أو حزب «البديل» في ألمانيا.
هذه فرضية منطقية، بالطبع، بل هي تلقائية وأقرب إلى تحصيل الحاصل؛ لولا أنّ تسخير عناصرها في أيّ نقاش معمّق حول مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يسفر عن مشهد سياسي وسوسيولوجي وثقافي أكثر تعقيداً مما يلوح على السطح. بعضها يتفاقم، شاء المرء أم أبى، إلى نقاش صراع الحضارات كما تداولته تيارات عديدة قبل نظرية صمويل هنتنغتون؛ وبعضها يردّ الحال، على طرفَيْ الاصطفاف بين ابن الثقافة والآتي إليها مهاجراً أو لاجئاً، إلى معادلة تبادلية بسيطة: كلما تعاظم يقين الأوّل بأنّ الثاني وطأة، ويشكّل مصدراً لجزء كبير من أسباب تدهور العيش والبطالة والاقتصاد؛ ازداد نزوع الثاني إلى النأي عن الاندماج، والتشبث بما يعتبره «جذور» حضارته الأمّ، صانعة الكينونة على هذا النحو او ذاك.
ولقد كان لافتاً أن الفرنسي جوردان بارديلا، رأس لائحة «التجمع الوطني»، هو في الأصل سليل عائلة إيطالية هاجرت إلى فرنسا في ستينيات القرن الماضي؛ لكنه اليوم لا يرفض «موجات الهجرة» كما تسير الذريعة التقليدية، فحسب؛ بل يناهض مبدأ قبول المهاجرين، واللاجئين، جملة وتفصيلاً، حتى إذا بقيت زوارقهم تائهة في البحر أو عرضة لأخطار الغرق. إنه، مع ذلك، يلحّ على أنّ اندماجه في المجتمع الفرنسي قصة ناجحة، في مقارنة ضمنية مع قصص الفشل التي يتوجب ــ بالضرورة والتعريف، حسب منطق التوازي ــ أن تكون مصير محمد أو مصطفى أو حسن، من الأسماء التي لا تتوفر بعض حروفها في الأبجدية اللاتينية. ولو عادت عقارب الزمان إلى الوراء، فالأرجح أنه كان سيرفض قبول أمثال زين الدين زيدان أو كريم بن زيمة أو كليان إمبابي في عداد المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم، مقابل الترحيب بوجود أمثال ميشيل بلاتيني أو دافيد تريزيغه أو أنتوان غريزمان.

الهولندي فريتس بولكشتين، المفوّض السابق في الاتحاد الأوروبي، لم يترك زيادة لمستزيد: إذا انضمت تركيا فسيكون تحرير فيينا من الحصار العثماني سنة 1683 قد ذهب عبثاً في عبث!

وهكذا فإنّ مناخات مثل هذه، وسواها مما صعد مع، أو استؤنف بعد، انتخابات البرلمان الأوروبي، ألقت بظلالها على تقرير المفوضية الأوروبية بصدد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ بدليل أنّ هذا هو النصّ الأقسى، والأخشن لغة وعدائية، منذ 12 سنة حين درجت المفوضية على إعداد تقارير سنوية مماثلة؛ وأنه، استطراداً، يتزامن مع اللطمة الأقسى التي تلقاها الاتحاد، في مختلف أجنحته اليمينية واليسارية والليبرالية، من تيارات اليمين المتطرف والعنصري والشعبوي. وكأنّ حال كتّاب تقرير 2019 حول تركيا يقول ما معناه إنّ رفع فزّاعة أردوغان هو أحد السبل (القليلة المتوفرة، الركيكة القاصرة إجمالاً) للحدّ من تعاظم مدّ تلك التيارات؛ أو أن تُداوى أحزب متطرفة مثل «الرابطة» الإيطالي و«العدالة والقانون» البولندي و«فيديس» المجري، بالتي كانت هي الداء: أي «العدالة والتنمية» التركي!
وأياً كانت طبيعة القرائن التي يسوقها التقرير لإثبات نأي تركيا عن عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد يكون معظمها صحيحاً بصدد السلوك السلطاني الذي بات أردوغان يتصف به، أو انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة التي صارت تُرتكب في أجهزة الدولة المختلفة؛ فإنّ ما يتغافل عنه التقرير هو حقيقة اتكاء «العدالة والتنمية» على أغلبية برلمانية لم تأت نتيجة انقلاب عسكري أو تزوير للانتخابات، وإلا لأقام الاتحاد الدنيا ولم يقعدها. هذا فارق قانوني واضح ولا يقبل الطعن، تماماً كما لا يصحّ للاتحاد أن يرفض صعود الفرنسية مارين لوبين أو الإيطالي ماتيو سالفيني أو الألماني يورغ مويتن أو البريطاني نايجل فرج… عبر صندوق الاقتراع!
وبالطبع، في وسع المرء أن يقتبس الكثير من المواقف التي اتخذها زعماء أوروبيون ضدّ انضمام تركيا، وكانت ذات ركائز ثقافية أو حضارية أو قِيَمية (أي تنبثق، دون تأتأة أو تعمية، من التراث اليهودي ــ المسيحي، حرفياً). الفرنسي نيكولا ساركوزي، حين كان رئيساً للجمهورية، اعتبر أنّ مكان تركيا ليس في أوروبا المسيحية، بل في آسيا المسلمة؛ والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عفّت قليلاً عن هذه الصراحة، ففضّلت صيغة «الشراكة المتميزة» على العضوية التامة؛ والمستشار النمساوي الأسبق ولفغانغ شوسل رأى أنّ بدء الإتحاد الأوروبي مفاوضات ضمّ مع تركيا «أمر يثير السخرية»، فيما يتخلى الاتحاد عن المفاوضات مع كراوتيا؛ والهولندي فريتس بولكشتين، المفوّض السابق في الاتحاد الأوروبي، الذي لم يترك زيادة لمستزيد: إذا انضمت تركيا فسيكون تحرير فيينا من الحصار العثماني سنة 1683 قد ذهب عبثاً في عبث!
وكيف للمرء أن يستبعد أنّ «الفزّاعة» الحقيقية التي ظلت تخيف هؤلاء الساسة لم يكن أردوغان (إذْ كان وقتها لا يملك من سلطات السلطنة والتَسَلْطُن إلا النزر اليسر)، ولا «العدالة والتنمية»، ولا حتى «الرفاه» في ظلّ نجم الدين أربكان؛ بل كان، وهكذا يظلّ اليوم، الحضور الديمغرافي المتزايد لهذا المواطن الأوروبي المتحدر من أصول أخرى غير أوروبية، وغير منتمية بالولادة إلى التراث الثقافي والديني اليهودي ــ المسيحي. اذهبوا، دون إبطاء، إلى أحد كبارهم الذين علّموا السحر في هذه الميادين: المستشرق الشهير برنارد لويس، الذي بعث القشعريرة في أبدان أمثال بولكشتين، حين صرّح لصحيفة ألمانية بأنّ أوروبا، إذا ضمّت تركيا ولم تضيّق على موجات الهجرة من آسيا المسلمة وشمال أفريقيا، سوف تصبح إسلامية عند نهاية القرن العشرين.
وقد يساجل البعض هكذا: ها قد انتهى القرن العشرون، ولم تتحقق نبوءة لويس؛ وقد يكون الردّ التلقائي: فعلاً، ليس لأنّ الـ19 سنة من عمر القرن الجديد لم تشهد انضمام تركيا، ولم تشهد فتح المطارات والموانئ أمام هجرات المسلمين من آسيا وشمال أفريقيا أيضاً؛ ولكن الأهمّ: أنها شهدت تعاقب اللطمات اليمينية المتطرفة والعنصرية والشعبوية، على وجه أوروبا الليبرالي أو اليميني المسيحي أو الاشتراكي الديمقراطي، التنويري باختصار.
وهنا انعقاد المنطق الكبير بين وهم «الفزّاعة» وألم اللطمة!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس