أسامة الملوحي

شكل إقرار الكونغرس الأمريكي لقانون “حماية المدنيين”، المعروف باسم “سيزر”، أول إنجاز حقيقي للمعارضة السورية في الخارج وقد يشكل انعطافة كبيرة لصالح الثورة السورية لو استُثمر وأُتبع. إنها المرة الأولى منذ انطلاق الثورة التي تُدين جهة رفيعة مؤثرة مثل الكونغرس الأمريكي؛ نظام الأسد بارتكاب جرائم حرب، رغم أن القانون ذكر رقماً للضحايا أقل من الحقيقة بكثير، فقد أدرج القانون رقم 400 الف ضحية من المدنيين السوريين..

واعتمد القانون الذي أُقرَّ يوم الثلاثاء (15/11/2016) بشكل رئيسي على 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل ماتوا تحت التعذيب في السجون السورية، بين عامي 2011 و2013 سربها مصور في الشرطة العسكرية السورية، وسمي باسم مستعار “القيصر”. ولكن هل صدر هذا القانون وحده ووصلت مادته إلى الكونغرس وحدها وهل الذين بادروا هم أعضاء الكونغرس أنفسهم أم هناك من صنع ذلك من السوريين، ومن هم هؤلاء السوريون المعارضون الذين خططوا واشتغلوا وضحوا وتابعوا حتى انتزعوا هذا القانون من الكونغرس؟ من هم؟ هل هم تابعون للائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة الذي أصدر ترحيبات وتصفيقات جماعية وفردية لهذا القانون؟ أم أنهم معارضون خارج الائتلاف؟

بلا ريب، لقد كان وراء هذا القانون عمل ضخم مضنٍ من سوريين عظماء، وبلا ريب لم يكن للائتلاف أي دور في هذا العمل الفريد.. لقد كان هناك جنودٌ أقرب للمجهولين البعيدين عن الإعلام والشهرة.

“القيصر”، الذي كشف سوأة نظام بشار الأسد وعرّاها أمام الملايين بشكل لم يسبقه إليه أحد.. كان وراءه فريق عمل من الشباب السوري الثائر، عمل على مدى أشهر طويلة باحتراف رائع وكتمان ناجح لتوثيق الملف من داخل وخارج سوريا، و”تمكين” كل جوانبه الحقوقية والإنسانية، كي تضعف قدرة الأسد على الإنكار والتكذيب وادعاء “الفبركة” أو “التسييس”، كما درج على ادعاء ذلك تجاه كل جريمة يقوم بها وتفوح رائحتها، ففي مجازر الكيمياوي في الغوطة اخترع النظام روايات عجيبة وصلت إلى حد اتهام شهداء الكيماوي بقتل أنفسهم.

عمل هؤلاء السوريون كفريق عمل متجانس وغير مخترق، وكان لهم منسق عام تمكن من إدارة الملف بروح وطنية دون تسييس أو استثمار لمكاسب شخصية، وأشرف مع فريقه بقدرات ذاتية على تجميع الملف وإخراجه من سوريا، ثم ايصاله إلى الشركات الحقوقية المعتبرة ومن بعد ذلك إلى الإعلام، وتمكن الفريق من الاتصال بدولة قطر التي يحتكر الاتصال بها وبغيرها الائتلاف الممانع المتربص، واستطاعوا اقناع مسؤولين فيها لتمويل مرحلة التوثيق وهي مرحلة حساسة إن لم تنجح فستضيع كل الجهود والتضحيات.. وكان لا بد من الاستعانة بأشهر وأغلى شركة في هذا المجال وهي شركة المحاماة العالمية “كارتر راك” ومقرها في بريطانيا.

لقد بدأ العمل الصامت الرصين الدؤوب في أيلول/ سبتمبر عام 2011، واستمر حتى شهر آب/ أغسطس 2013 لتجميع الوثائق والصور عبر شبكة عمل متكاملة؛ ضمت لجانا عدّة في الداخل السوري. وكان عدد قليل جداً من الأفراد الذين كانوا يعرفون “القيصر” ويتواصلون معه، وكان عمله أصلاً في التوثيق القضائي العسكري… وكانت عملية التسريب والجمع للصور تتم بحذر شديد. وتراوح عدد الصور المسربة يومياً من 10 إلى 180 في بعض الأيام، وبعدها تمت عملية الأرشفة، ثم نقلت الصور للخارج على مراحل، وكان منها ما هو نسخ أصلية لصور التقطت أصلاً لأرشيف النظام وملفاته.

وبعد ذلك كان لا بد من إخراج قيصر من سوريا لحمايته ولإكساب الصور والوثائق أهميتها؛ لأنه كان الشاهد “الملك” الوحيد في هذه القضية، فرتب الفريق عملية الانشقاق والخروج، وكانت عملية معقدة استمرت لمدّة شهر كامل. وتم اخراج 19 فرداً من أفراد أسرته قبله، ثم خرج القيصر إلى مكان سري آمن في دولة مجاورة بمساعدة الجيش الحر.

وفي الخارج، تم التنسيق والتواصل ليُدفع الملف في النهاية بدعم قطري إلى شركة “كارتر روك” للمحاماة في لندن.

كلّفت الشركة لجنة خاصة لتقود عملية التحقق من الصور وضمت ثلاثة شخصيات كبيرة ومتخصصة في القانون الدولي وجرائم الحرب، ونقلت عنهم “الغارديان” أن الأدلة “وثقت عملية قتل على قاعدة واسعة”.

وقام خبراء طب شرعي بالتحقق من الصور بالإضافة إلى مركز “أكسيوم” للطب الشرعي في بريطانيا، حيث نقلت إليه 35 صورة كي يقوم بفحصها، وأكد المركز أنه لم يتم التلاعب بها.. وقد سجلت اللجنة ملاحظاتها بدقة وحِرفية، فلاحظت على المصدر (قيصر) أنه لم يبحث عن الشهرة أو الإثارة أو التحزب لطرف.

ومع أنه كان يتعاون مع المعارضة للنظام، لكن اللجنة اقتنعت بتجربته وإخلاصه وصدق روايته، ولو كان يريد المبالغة في الحديث عن الأدلة لقال إنه شهد عمليات قتل وإعدام… بل في الحقيقة كان واضحا أنه لم يشهد أبدا عملية قتل، وهو ما دفع هذه اللجنة للتوصل إلى أنه كان يقول الصدق.

وأنشأ الفريق السوري موقعاً الكترونيا لذوي الضحايا ليرسلوا صور أبنائهم المفقودين لتتم المقارنة والمطابقة مع الصور المؤرشفة المخزونة… وهذا الجهد أسهم في معرفة أسماء بعض الضحايا، مما أكسب التوثيق زيادة في القوة والثبوت.

وفي الجانب الإعلامي، فقد خطط الفريق السوري الفاعل لاقتحام الإعلام الغربي بشكل رئيسي كونه المحرك الأكبر للرأي العام العالمي، فنشر القضية في عدد من وسائل الإعلام، ولكن بعدد محدود من الوثائق، سواء وكالة “أناضول” التركية أو شبكة “سي إن إن” الأمريكية، وكان إجمالي ما تم نشره من صور – دون تكرار- يعادل 35 صورة فقط.

وكانت الأولى وكالة الأناضول التركية في 20 كانون الثاني/ يناير 2014، حين نشرت الوثائق تحت عنوان صارخ: “وثائق جرائم الحرب في سوريا”، بتوقيع مدير الوكالة كمال أوز تورك شخصياً. وبعد فترة قصيرة طلبت لجنة التحقيق المعنية بسوريا، والمنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، من وكالة الأناضول تسليمها الصور التي نشرتها واعتبرتها دليلاً على ممارسة قوات النظام السوري التعذيب بحق آلاف السجناء، وتصديقاً لحقائق ووثائق أخرى سابقة، كما طالبت بإجراء مقابلة مع الشاهد “سيزر”.

وأوضحت اللجنة أنه في حال قبول وكالة الأناضول للطلب، فإنه سيتم استكمال الصور في نهاية كانون الثاني/ يناير، بغية تقديمها إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومن الممكن أن ترفقها في التقرير.. وفعلاً تم عرض الصور مع التقرير في مجلس الأمن في اجتماع مغلق في نيسان/ إبريل 2014.

وفي أيار/ مايو منع الفيتو الصيني والروسي إحالة الملف إلى المحكمة الدولية.

وأصبحت الضجة مدوية وفاضحة، واستطاع بعض أعضاء الكونغرس أن يؤمنوا حضورا للقيصر أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس في جلسة استماع خاصّة، وكانت جلسة مؤثرة وحاسمة عُرضت فيها الصور مع تعليقات وشروحات القيصر الذي حضر متخفياً، وكانت هي المرة الأولى التي يتمكن فيها سوري من الحصول على فرصة جلسة استماع أمام الكونجرس لصالح الثورة ضد نظام بشار الأسد، ومنها ولدت فكرة دراسة قانون لإدانة ومعاقبة بشار الأسد ومن معه في الكونغرس الأمريكي.. وسمي مشروع القانون باسم “سيزر”.

وعُرض قسم من هذه الصور المروعة الموثّقة في متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة، في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2014. وشاهد بعض الأمريكيين لأول مرة جثث ضحايا الأسد الذين قُتلوا جوعاً أو خنقاً أو ضرباً أو تعذيباً على أيدي أجهزة القمع الأسدية.

وقال أحد قضاة الحقوق المدنية المخضرمين إن الصور توثق “آلة القتل غير المسبوقة منذ المحرقة”. وقال ستيفن راب سفير الولايات المتحدة لجرائم الحرب إن الصور هي “من أقوى الأدلة التي رأيناها على ارتكاب الفظائع الجماعية”.

وفي شهر آذار/ مارس 2015 افتُتح في مقر الأمم المتحدة في نيويورك معرض لقسم من هذه الصور، وكان أثر عرضها مؤلماً وكبيراً وغير مسبوق.

ومكث مشروع قانون “سيزر” شهوراً وشهوراً في الكونغرس؛ بسبب عرقلة أوباما له مراراً، وآخر عرقلة كانت في أيلول/ سبتمبر الماضي، حين أقنع أوباما الديمقراطيين بتأجيل التصويت على القانون… ولكن القانون، وقبل أن يغادر أوباما البيت الابيض بعشرة أسابيع، خرج بالإجماع من مجلس النواب وسيكمل المصادقة عليه مجلس الشيوخ ليصل إلى أوباما لإمضائه قبل أن يغادر، وليصبح ملزماً لترامب في أول شهر من ولايته.

“قانون سيزر” أكد أن بشار الأسد مسؤول عن مقتل أكثر من 400 ألف مدني، وتدمير أكثر من 50 في المئة من البنية التحتية السورية، وتشريد أكثر من 14 مليون نسمة، في أسوأ كارثة إنسانية عرفها العالم منذ 60 عاماً.

القانون ذكر أن المجتمع الدولي فشل في حماية المدنيين من هجمات قوات الأسد.

القانون أقرَّ بمسؤولية النظام السوري عن ظهور التنظيمات “الإرهابية”.

القانون طالب الرئيس الأمريكي بفرض عقوبات جديدة على أي كيان يتعامل، أو يمول حكومة الأسد، أو جيشها، أو استخباراتها العسكرية، وهو ما يشمل إيران وروسيا.

القانون ينص على فرض عقوبات على أي كيان يتعامل مع قطاعات عدة تسيطر عليها حكومة الأسد، بينها قطاعات الطيران والاتصالات والطاقة.

القانون أمهل الرئيس الأمريكي 90 يوماً ليقترح آلية منطقة حظر جوي في سوريا، وفي حال تجاوز المدة ستقوم لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بتقديم المقترح للرئيس.

إنه قانون مؤثر هام ومادة عمل خام ويحتاج لمن يستثمره ويُتبعه بضغوط وجهود وحشد… قانون انتزعه فريق سوري ثوري فعّال… قانون يستطيع من انتزعه أن يُكمل فيه العمل والمشوار… وفريق العمل الفعّال الذي وصل إليه لم يكن الائتلاف ولا تابعاً للائتلاف… لقد كان ائتلافاً من نوع آخر… ائتلافا صامتا فعالا.. ائتلافا كوَّن القيصر وساعده ثم أخذ مادته فطبق فيها الآفاق وانتزع حقاً للشعب السوري المظلوم..

إنه ائتلاف شرعي، شرعيته شرعية المكاسب، ومن حار فيما يفعل في الشدة الشديدة التي نحن فيها، فأمامه أن يُنكر ائتلافاً ولد ميتاً وأن يدعم ائتلافأ حقق انتصاراً في جولة كبيرة، وإن سانده السوريون فسيحقق بإذن الله جولاتٍ وجولات.. إنه ائتلاف “القيصر”.