بعيدًا عن تفسيرات الدولة المصرية لأسباب ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري مؤخرًا بطريقة هيسترية، وبعيدًا أيضًا عن اتهام الدولة المصرية لفردٍ واحد بالوقوف وراء هذا الأمر، عبر إعلان وزارة الداخلية المصرية إلقاء القبض على رجل الأعمال المصري حسن مالك المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين.

واجه الرجل اتهامات بالإضرار بالاقتصاد المصري وتجميع العملات الأجنبية وتهريبها للخارج وتخفيض سعر صرف الجنيه المصري، بعد أن واجهته أجهزة الأمن المصرية بتحريات الأمن الوطني وبعض الأحراز التي تمثلت في آلاف الدولارات والأوراق التنظيمية من خلال أجهزة المحمول الخاصة به.

ولكن بالإعلان عن هذه الأحراز اتضح أن الرجل قام بتخفيض سعر الجنيه المصري عبر ادخار مبلغ 38 ألفًا و640 جنيهًا تم ضبطها داخل سيارته بالإضافة إلى مبلغ 137 ألفًا و585 جنيهًا و15 ألف دولار فقط تم ضبطها داخل شركة صرافة، هكذا تود أجهزة الدولة الرسمية في مصر إقناع الرأي العام بأن هذه الأموال الشخصية لرجل أعمال أدت إلى ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري.

ولا يمكن أن يتعجب البعض بعد ذلك من خبر إلقاء القبض على ما ادعت أجهزة الأمن المصرية أنهم “تجار عملة” بحوزتهم مبلغ 60 دولار، في إطار سياسات الدولة للحد من انهيار سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، إذن تتحدث الدولة عما إجمالية 15 ألف دولار وستين دولار أخرى هي السبب الرئيسي في وجهة نظر المسؤولين المصريين لانهيار الجنيه المصري، لكن لا أحد يُحدثنا عن الأسباب الحقيقية المنطقية  وراء ارتفاع الدولار أمام الجنيه المصري.

في حين لم يتحدث مصدر رسمي مصري بطريقة جدية غير تلك التي نراها على صفحات الجرائد اليومية في مصر عن أسباب انهيار سعر صرف الجنيه المصري، بهذا قد تركت لنا الحكومة المصرية مهمة توضيح الأسباب الموضوعية لهذا الانهيار الغير مفاجئ بالمرة لسعر صرف عملتها “الجنيه المصري”.

لن تجد مصدر حكومي يتحدث عن خبر شكوى شركات استثمارية عدة في مصر منذ فترة طويلة وعلى رأسها شركات الطاقة التي تعاقدت مع وزارة الكهرباء المصرية من مواجهتهم لأزمة كبيرة في الحصول على ما يُعرف بالعملة “الصعبة” في مصر لسداد مستحقات قروض على هذه الشركات بعد استيرادهم لبعض الأدوات والمعدات من الخارج، كما أن خبر كتراجع الاحتياطي المصري من النقد الأجنبي مبلغ ١.٧٦ مليار دولار في شهر سبتمبر مر مرور الكرام على المسؤولين الماليين في مصر.

بالربط بين هذين الخبرين بسهولة تستطيع معرفة أن هذه الأزمة ليست وليدة اليوم واللحظة بل إن المستوردين بشكل عام في مصر قد أبدوا شكواهم مرارًا من وجود أزمة في توفير العملات الأجنبية، بالتزامن مع إجراءات غير منضبطة وعشوائية من البنك المركزي المصري ورئيسه السابق هشام رامز الذي أُقيل أو استقال على خلفية هذه الأزمة.

من ضمن هذه الإجراءات العشوائية التي نتحدث عنها هو منع استيراد بعض السلع الغير ضرورية في وجهة نظر الحكومة توفيرًا لنفقات عملتها الصعبة، وهو ما حدث مع منع استيراد الكافيار لأنه يستهلك 80 مليون دولار سنويًا، اختزال مشكلة الدولار في استيراد هذه السلعة، يجعل بعض المحللين الاقتصاديين يشكون في معرفة من اتخذ هذا القرار بقيمة واردات مصر الإجمالية في العام الواحد التي تتخطى 60 مليار دولار، وبذلك لا يعلم أن مبلغ 80 مليون دولار لن يؤثر بالأساس في عملية توفير الدولار.

كما لا يجرؤ من المصادر الرسمية في الحكومة عن الحديث في أمر جفاف منابع العملة الصعبة في مصر، بسبب عجز القطاع السياحي بمصر في السنوات الأخيرة، كذلك تحول الاقتصاد المصري في الآونة الأخيرة إلى اقتصاد مستهلك فحسب، عبر العجز الحاد في الميزان التجاري المصري بعد انخفاض الصادرات المصرية في شهر سبتمبر بمعدل 28%عن الشهر المثيل من العام الماضي، كذلك انخفاض هذه الصادرات بمقدار 19% خلال أول تسعة أشهر من العام الحالي إذا ما قارنا الوضع بعام 2014.

وقد حذرت مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني من إمكانية تخفيض التصنيف الائتماني الخاص بمصر بسبب التراجع الحاد في الاحتياطي الأجنبي لدى مصر، وهو الأمر الذي لم يُعيره أحد اهتمامًا، كذلك زاد الدين الخارجي على مصر ليصل إلى 48 مليار دولار في منتصف هذا العام بزيادة 2 مليار دولار عن العام الماضي، والرقم مرشح للزيادة مع ظهور نية عاجلة لدى الحكومة المصرية لاقتراض 2 مليار دولار من البنك الدولي.

فيما يُعتبر أحد الأسباب وراء انهيار الاحتياطي النقدي المصري هو تسرع النظام في تنفيذ مشروع “تفريعة قناة السويس” الجديدة، هذا التسرع الذي أدى إلى مضاعفة التكلفة الأصلية للمشروع، وتزامن هذا مع انخفاض معدل تشغيل قناة السويس بسبب بعض الركود الذي أصاب الاقتصاد العالمي وهو ما لم يضع له النظام أي حسبان، فأصبحت التفريعة الجديدة ثقب لسحب الأموال دون أن تعطي العائد المطلوب حتى الآن باعتراف رئيس هيئة قناة السويس.

كذلك انخفضت تحويلات المصريين بالخارج بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين وهو ما حذر من تأثيره على الاحتياطي النقدي الأجنبي الكثير من الخبراء الاقتصاديين، حيث صدر تقرير عن البنك المركزي المصري في منتصف 2014 يتحدث عن تراجع تحويلات المصريين من الخارج، التي تراجعت إلى 8.441 مليارات دولار بنسبة 8.9%، خلال النصف الأول من العام المالي 2013/ 2014، مقارنةً بنحو 9.276 مليارات دولار في الفترة نفسها من العام المالي 2012/ 2013.  

بهذا كانت تنهار مصادر العملة الصعبة في مصر يومًا تلو يوم والنظام المصري مشغول بصراعات سياسية داخلية وخارجية، بالإضافة إلى التراجع الحاد في الدعم الخليجي في هذه الفترة من عمر النظام، وهو ما كان يستوجب إجراءات تقشفية من الدولة لمواجهة كل هذه العوامل المتراكمة، لكن النظام آثر الدخول في صفقات تسليحية ثقيلة وغيرها من المغامرات التي أنهكت الاحتياطي النقدي المصري حتى هبطت به إلى أدنى مستوٍ منذ فترات تاريخية طويلة.

وما زال التبرير الرسمي في مصر لهذه الأزمة بأنها أزمة عالمية تعاني منها غالبية الدول النامية نتيجة تراجع الصادرات الأساسية لهذه البلدان، وهو حديث يُظهر جانب من الحقيقة ويُخفي آخر، لأن هذا التراجع في الصادرات حاصل بالفعل ولكن في مدة فائتة وجيزة، أما انهيار الجنيه المصري فلم يكن من يوم وليلة بل إن دلائله كانت تظهر منذ عامين وأكثر والمؤسسات المالية الحكومية لا تبالي بهذا.

هذه اللامبالاة تظهر في إصرار وزارة المالية المصرية على إعطاء تقدير خاطئ لعجز الموازنة المصرية، بالرغم من انخفاض سعر الجنية بهذه الصورة، حيث قدرت الحكومة عجز الموازنة بنسبة ٨،٩ % من الناتج القومي المحلي للعام المالي ٢٠١٦/٢٠١٥، وظلت النسبة على ما هي عليه حتى الآن بالرغم من قيام البنك المركزي المصري بتخفيض قيمة سعر صرف الجنيه المصري بمقدار ثلاثين قرشًا أمام الدولار الأمريكي.

كل هذه الأخبار لن تجدها متدوالة في الصحافة المصرية ولن تجد المسؤولين في الحكومة يتحدثون عنها باستفاضة بالرغم من كونها موجودة على المواقع الرسمية للمؤسسات المالية المصرية كالبنك المركزي ووزارة المالية، ولن تجد من الحلول سوى البحث عن كبش فداء لهذه الأزمة المزمنة مثل هشام رامز الرئيس السابق للبنك المركزي، كذلك سيتم التركيز على أخبار من نوعية مسؤولية 15 ألف دولار بحوزة رجل الأعمال الإخواني حسن مالك التي تعد السبب الرئيسي خلف انهيار الجنيه أمام الدولار.

نون بوست