كاتب سوري

لم يأخذ الاعتقال السياسي في سورية شكلا واحداً، أو يطاول أشخاصاً “مذنبين” فقط، ذلك لأن حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي فرضت بشكل متواصلٍ عقودا، والمادة 16 من المرسوم التشريعي رقم 14 الصادر في 15/1/1969، الذي أنشأ إدارة المخابرات العامة، ونصها: “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات الموكولة إليهم، أو في معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير” (مدير إدارة المخابرات العامة)، أطلقت هذه المادة يد أجهزة المخابرات، خصوصا بعد مواجهات ثمانينات القرن الماضي بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين، واعتماد السلطة، بعد انتصارها في هذه المواجهة، سياسة أمنية صرفة، على خلفية اعتبار السياسة أمنا، في مواجهة كل أشكال الحراك الوطني، السياسي والاجتماعي، ومنحتها حرية التصرّف مع المواطنين، من دون قيد أو رقيب أو حسيب، لذا طالوت الاعتقالات السياسية ليس أشخاص المطلوبين فحسب، بل وذويهم وأقاربهم أيضا، إذ كثيرا ما اعتقل الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت، أو جميع أفراد الأسرة، للضغط، نفسيا واجتماعيا، على مطلوبٍ هاربٍ أو موجودٍ خارج البلاد، أو لترويع المجتمع، أو للسببين معا. ناهيك عن حرمان دائرة المعتقل الأسرية من فرص العمل في مؤسسات الدولة وإداراتها، لأن التوظيف يتطلب موافقة هذه الأجهزة التي ترفض توظيف شخصٍ له أقارب معتقلون أو فارّون، ما لم يكن على علاقة جيدة مع السلطة، عضوا في الحزب (البعث) الحاكم، أو مخبرا لدى أحد فروع هذه الأجهزة، أو مستعدا لدفع ثمن الموافقة مبالغ طائلة، وتعرّضها (دائرة المعتقل الأسرية) لمساءلة ومضايقة، حتى الأصدقاء والجيران لم يسلموا من المساءلة والمضايقة والاعتقال التعسفي لاستكمال التحقيق، أو للابتزاز النفسي والمالي.

يمكن متابعة الآثار الاجتماعية للاعتقال السياسي، بدءا من الدائرة الضيقة للمعتقل، والانتقال بها إلى محيط أوسع، أول حلقاتها سحب المعتقل من شبكة علاقاته الاجتماعية (الأسرية والمحلية والمدرسية والوظيفية) فإن كان ابنا/ ابنة، زوجا/ زوجة، أبا/ أما، أوجد فراغا في مساحة اجتماعية تضم الأب/ الأم، الأخ/ الأخت، العم/ العمة، الخال/ الخالة، الجار/ الجارة، الصديق/ الصديقة، الزميل/ الزميلة… إلخ، وأحدث إرباكا معنويا ونفسيا في دائرةٍ واسعةٍ، تشمل الأهل والأقارب والأصدقاء وزملاء الدراسة والعمل، إرباكا يبلغ حد الرعب، خصوصا في ذروة حملة الاعتقالات التي شهدتها سورية في ثمانينات القرن الماضي، والتي طالت مئات الآلاف من المواطنين اعتقلوا لأسباب غير قانونية في الغالب: قرابة مع معتقل أو مطلوب فارّ، أو جار، صديق، زميل عمل على خلفية “عرف ولم يبلغ”، حيث كانت العلاقة مع معتقل، مهما كانت قريبة أو بعيدة تقود إلى المساءلة والاعتقال في أحيانٍ كثيرة. أما إذا كان المعتقل ابنا/ ابنة (غير متزوج)، فإن الصدمة المباشرة تقع على الوالدين اللذين يدخلان في دوامة مزلزلة، خصوصا أن معرفة سبب الاعتقال أو مكانه، أو زيارة المعتقل، أو الاطمئنان عليه، ممنوعة أو مستحيلة، تصبح ممكنةً بدفع مبالغ طائلة، هذا إذا لم يقد اعتقال الابن/ الابنة إلى اعتقال الوالدين أو أحدهما، أو إهانتهما وتعريضهما لتجارب قاسية: ترهيب، ابتزاز، خصوصا الأم التي ينزل عليها اعتقال الولد/ البنت ثقيلا، ثقل موت أحدهما عليها.
أما إذا كان المعتقل متزوجاً، وله أطفال صغار، فإن تأثير الاعتقال يطال أشخاصاً أكثر، خصوصا الزوجة التي ستفتقد الزوج والصديق والمعيل والمعين، سيما الزوجة ربة المنزل التي ستواجه موقفاً جديداً في حياتها يلزمها بتصرّف محدّد في حال كان والدا الزوج، أو والداها، غير قادريْن على مساعدتها مادياً: السعي على أطفالها، فتخرج للعمل، غالباً ما يكون عملها، بسبب عدم التخصّص والخبرة، وضيعا، عملا في المنازل أو في المعامل التي لا تحتاج إلى خبرات، حيث الدوام الطويل والأجر القليل، ناهيك ما تتعرّض له من مصاعب وإهانات، وكثرة القيل والقال من محيطها، من أهل الزوج، إذا كانوا ليسوا على وفاقٍ معها، حيث كثيرا ما حمّلوها مسؤولية الاعتقال نفسه، وشكّكوا بسلوكها بعد الاعتقال، هذا مع ما تتعرّض له من مضايقاتٍ من أجهزة المخابرات (استدعاءات، تطاول، إرهاق جسدي وضغط نفسي لكثرة الاستدعاءات والمراجعات… إلخ) أو من عناصر من هذه الأجهزة، من أجل الابتزاز المالي الجنسي. أما إذا اعتقلت الزوجة مع الزوج، وهي حالات حصلت كثيرا، فإن الصاعقة تقع على الجدّين، إن وجدا، وتحرم الأطفال من حضور الوالدين في حياتهم.
يبدأ الأثر الاجتماعي بالظهور في الدائرة الضيقة لأسرة المعتقل، بدءا بحالة القلق والرعب التي يعيشها والداه، إن كان أعزب/ عزباء، ووالداه وزوجه، إن كان متزوجاً لم ينجب بعد، ووالداه وزوجه وأولاده، إن كان له أولاد، وخصوصا الأولاد الذين سيحرمون من الأب أو الأم أو كليهما، وحرمانهم من حياةٍ أسرية طبيعية، وهذا سيورثهم مشكلاتٍ نفسية، بسبب حاجة الأطفال إلى وجود الأب والأم في حياتهم، كون الأب قدوة الولد والأم قدوة البنت، ما يجعل نموهم النفسي مشوبا بعُقد، تزيد وتنقص حسب العمر الذي كانوا عليه عند مواجهتهم تجربة اعتقال الأب أو الأم أو الأب والأم معا، وطولها ونتائجها المباشرة وغير المباشرة. وهذا سينعكس على تعليمهم، وعلى مستقبلهم بالتالي، ناهيك عن الحرمان المادّي نتيجة افتقاد المعيل الذي سيقود إلى تبديل في دورة حياة الأسرة من حياة عادية (تعليم، تخرّج، دخول سوق العمل) إلى “ولوج سوق العمل مبكرا من دون شهادات أو خبرات مهنية مناسبة”، تزيد سلبية المحيط العائلي

الواسع، أو الأسرة الممتدة، الوضع مأساوية، حيث كثيرا ما هزت التجربة أقارب الأسرة المباشرين (الإخوة، الأخوات، الأعمام، الأخوال، العمات والخالات …إلخ )، لأن اعتقال قريبٍ لهم قد وضعهم في دائرة الخطر، وتحت سيف المراجعة والمساءلة والابتزاز والاعتقال التعسفي، فتبدأ، في حالات كثيرة، بقطع روابطها الشعورية والنفسية مع أسرة المعتقل، وفي حالات مقاطعتها اجتماعيا، ما يحاصر هذه الأسرة، خصوصاً الأطفال، شعورياً حيث يحسّون أنهم مرفوضون في محيطهم الأسري الممتد، وهذا يجعل حدود حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية ضيقةً ومحدودةً وعاجزة عن إشباع احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، وتفريغ طاقات الأولاد، فيفرغونها بين بعضهم بالخلافات السخيفة، أو بالعنف المتبادل. فالخوف من المساءلة أو الاعتقال التعسفي يفرض على أشخاص كثيرين، وعلى أسر كثيرة، تحاشي “مواطن الشبهات”، ليس بسبب كراهية دفينة لشخص القريب أو الصديق أو الجار، أو زميل الدراسة والعمل، المعتقل أو أسرته وأولاده، بل بسبب خوف داهم اقتحم عليهم حياتهم الرتيبة في عالمٍ يتسم بضعف الوعي والهشاشة النفسية والسيولة الوجدانية والأخلاقية. لذا تشيع في هذه الأوساط الهشّة أسئلة تتكرّر: لماذا فعل ذلك؟ لماذا ورّط نفسه وورّطنا؟… إلخ. كل هذا قبل مواجهة رد الفعل في المحيط الاجتماعي الأوسع (الأقارب البعيدون، الجيران، زملاء الدراسة، زملاء العمل.. إلخ)، والتوتر والإرباك الذي تشهده العلاقة في مثل هذه الحالة، فالسلوك العام الذي ساد في المجتمع السوري عقودا، خصوصا بعد ثمانينيات القرن الماضي، مال إلى تجنب المشكلات والابتعاد عمّا يثير ريب السلطة وأجهزة مخابراتها، ما جعل رد الفعل العلني إدانة المعتقل، حتى قبل معرفة سبب الاعتقال، “خرجو الله لا يقيموا”، “عامل مناضل حضرتو”، عبارات قيلت تعليقا على حالات اعتقال ومعتقلين، وابتعاد أقارب وأصدقاء وجيران وزملاء المعتقل عن أسرته وذويه والأصدقاء المشتركين: تجاهل، مقاطعة، تنقير من الصديق أو الجار أو زميل الدراسة أو العمل، إن كان مواليا شكليا للنظام، وانتقاد وتوبيخ وإيذاء، إن كان الصديق أو الجار أو زميل الدراسة والعمل مواليا متحمسا، أو عقائديا، كل هذا من أجل تجنب الشبهة والمساءلة، ما يفرض على أسرة المعتقل وذويه انعزالا قسريا وتقوقعا لتجنب مشكلات إضافية، لا داعي لها.
قلة من الأهل، الأقارب، الأصدقاء، الجيران وزملاء الدراسة والعمل، واجهت الموقف بشجاعة استثنائية: مواجهة أجهزة المخابرات بحقائق دستورية أو قانونية تربط المسؤولية بالفعل والعقوبة بها والتمسّك بالروابط الأسرية والاجتماعية، في حين انكفأت الأغلبية، بسبب سيادة ثقافة الخوف التي عمّمها القهر والاضطهاد، على ذاتها تجتر مراراتها ووساوسها حول ما يمكن أن تتعرّض له بسبب هذا القريب، الصديق، الجار الزميل …إلخ. لقد زوّدتنا التجربة المعاشة، خصوصا بعد التجربة القاسية التي عاشتها سورية في فترة ما بعد ثمانينات القرن الماضي، بأنباء عن أسر أعلنت البراءة من أبنائها الذين شاركوا في نشاطاتٍ سياسيةٍ أو نضاليةٍ، وتعرّضوا للاعتقال أو الفرار، خشية تعرّضها للمساءلة أو العقاب.
ظهور شروخ أسرية واجتماعية في الوسط العائلي أو المحيط الاجتماعي أول نتائج عملية الاعتقال السياسي، حيث يميل الناس إلى التخلص من مخاطر داهمة أو محتملة، مهما كان حجمها أو أثرها، لأن ثقافة الخوف التي سادت سورية، بعد المجابهة الدامية في ثمانينات القرن الماضي، التي دمرت وحطمت مجتمعات أهلية بكاملها، كرّست السعي إلى الخلاص الفردي

والسلامة الأسرية، واتقاء شر الشبهة والمساءلة والتحقيق والاعتقال التعسفي. فقد ترتب على حالات الاعتقال السياسي، بأشكالها المتنوعة ومستوياتها المتعدّدة، خصوصا حالات العقاب الجماعي، حيث تعتقل أسرة بأكملها، تكريس لثقافة الخوف وسيادة السلوك الاغترابي بين المواطنين، وهذا قاد إلى ابتعاد السواد الأعظم من المجتمع السوري عن الاهتمام بالشأن العام، من 1980 إلى انطلاق ثورة الحرية والكرامة عام 2011، هجره وسلّم بالوضع السائد واستسلم للشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها السلطة القهرية، وانتقل إلى سلوك سلبي صرف، على الرغم من إحساسه العميق أنه بهذا السلوك يلحق الضرر بحياته الاجتماعية والاقتصادية، فقد تكيّف مع مختلف المظالم، لعله ينال سلامة شخصية وأسرية، وتقمص سلوك الخائفين بتجلياته المتعددة: الازدواجية (يظهر غير ما يبطن، يعلن غير ما يسر)، الكذب، التزلف، الوصولية، النفاق، العزلة، اللامبالاة.
وقد زادت الآثار الاجتماعية السلبية للاعتقال السياسي كما ونوعا، بعد اعتماد النظام خيار القتل والتدمير، ردا على الثورة الشعبية التي انفجرت في وجهه عام 2011 مطالبة بالحرية والكرامة، وإنهاء عقود من الظلم والقهر والتمييز، حيث غدا الاعتقال صنو الموت، فالداخل في أقبية المخابرات مفقود، والخارج منها مولود، وبات رد الفعل الأولي لدى ذوي المعتقل أنهم فقدوه وإلى الأبد. وقد تأكّد هذا الاستنتاج، بعد أن انتشرت صور وفيديوهات وروايات مرعبة عن صنوف التعذيب والقتل بدم بارد، والموت البطيء، مرضا أو جوعا، كانت مجموعة الـ 55 ألف صورة لجثامين شهداء التعذيب الـ 11 ألفا الذين تمت تصفيتهم في أقبية المخابرات التي سرّبها مصوّر في الشرطة العسكرية التابعة للنظام، وقد سمّى نفسه، لاعتباراتٍ أمنية، قيصر، بأجسادهم النحيلة والمشوهة وآثار التعذيب الظاهرة والأرقام التي تحملها قرينة أولية أو عينة على ما يمكن أن يحصل في أقبية أجهزة مخابرات النظام، وذروة مأساة ذوي المعتقلين شكلت رد فعلهم، وحدّدت المستقبل الذي ينتظرهم، ويستدعي استجابة قائمة على مواجهة الواقع، من دون انتظار نجاة ذويهم وعودتهم أحياء. هذا من دون أن ننسى المعاناة الخاصة التي تتعرّض لها المعتقلات على خلفية شيوع ممارسة الاغتصاب خلال فترة التحقيق والاعتقال، كآلية لتحطيم المعتقلات وذويهن، وبث الرعب في المجتمع، وما يترتب عليه من رضوض نفسية للمعتقلات، بسبب تعرّضهن للاغتصاب، اغتصاب لمرات، ومن أكثر من عنصر، مصحوبا بالعنف والإهانة والإذلال، ومعاناة اجتماعية عند إطلاق سراحهن، إن حصل، في مجتمعاتهن الضيقة التي ترفع قيمة البكارة عاليا، وتلوم، على خلفية الثقافة الذكورية السائدة، الضحية، ولا تدين الجلاد، بحيث تبقى، تحت ثقل نظراتهم وتلميحاتهم وتقوّلاتهم، هذا إن لم تواجه بقسوة وعنف، وقصة الشابة علوة التي قتلها ذووها على خلفية تعرّضها للاغتصاب في المعتقل عينة نموذجية لهذا الموقف البائس، ما دفع كثيراتٍ منهن إلى الانطواء والعزلة، أو الهروب بعيدا عن مجتمعهن الضيق، كي تتوازن نفسياً، وتتخفف من الطوق الاجتماعي الخانق.

“العربي الجديد”