ليست الحرب شيئًا يحدث للمجتمع كعَرض يضاف إليه، إنها متضمنة وجوديًا في خطابات وممارسات وظروف ذلك المجتمع، وما يخرجها من القوة إلى الفعل قصدية فاعلين يشتغلون على تحويل الإمكانية البنيوية إلى واقع.
ومن الاختزال المخلّ عزو اندلاعها إلى البنى مهما كان تأثيرها، فعلى الرغم من أن الفاعلين منتج بنىً، ولكنهم يساهمون في تشكيلها عبر تمثلهم للبنية تمثلًا مفاهيميًا، الأمر الذي يعني أن البنى ليست ثابتة بسبب توسط تمثل الفاعلين لها، ولا تحدث أثرها فيهم بعملية خطية حتمية، كما أن فعل الفاعلين ليس حتميًا؛ لأنه نتاج قصدية لا تسير وفق مسار لا يتخلف.
إن العنف الذي يترافق مع الحرب استنادًا إلى ما سبق نتيجة تفاعل جدلي بين بنى وفاعلين، ومن ضمن أهم محرضات الفعل: العاطفة، وهي بالتعريف: دينامية تطلق فعلًا لتلبية اهتمام ملح، وهي تتوضع في سلسلة تبدأ بالموقف يتلوه مفهمة الموقف(الاعتقاد)، وتتلوه عاطفة تولد رغبة في فعل ما.
وأيًا كان نوعها، فإن وظيفتها هي تغليب رغبة على غيرها من الرغبات.
وإن أحد أهم أنواعها خطورة وقدرة على خلق فعل تدميري هي عاطفة الغيظ التي تغير ترتيب السلسلة فبدلًا من أن تكون مفهمة الموقف(الاعتقاد) سابقة للعاطفة تصبح العاطفة سابقة لها، وهو ما يحدث تشويهًا للاعتقاد.
يتميز الغيظ عن العواطف الأخرى في ناحيتين:
إحداث تشوهات في الإدراك لدى انتقاء الأهداف.
خلق تبريرات غير متماسكة للعنف.
من هذا الشرح المقتضب لدور العاطفة في توليد الرغبة في العنف، يصبح واضحًا أن الغيظ عاطفة مخرّبة لآلية جمع المعلومة وتشكيل الاعتقاد، وهو لذلك كفيل بتحويل العنف الثوري إلى عنف أعمى تستحيل الصفة الثورية بسببه إلى تنفيس عن حقد موجه إلى مجموعة ما أو أخرى.
ولا يكلف المرء نفسه مؤونة كبيرة لإدراك أن الفاعل الأكثر استجابة للاسترقاق للغيظ هو المحكوم باستقطاب طائفي لا يعدم أسبابه الموضوعية.
ولما كان المتطرف الإسلامي الأنموذج الأبرز تعبيرًا عن هذا الاستقطاب؛ لأسباب يقع في مقدمتها بنية تفكيره القائمة على مفهوم الفسطاطين: فسطاط الحق، وفسطاط الباطل، فإنه حتمًا الأكثر قابلية لأن تتملكه عاطفة الغيظ، والأكثر أثرًا في حرف المسار الثوري عن أهدافه.
ولا نفشي سرًا إذا قلنا إن ما يتذرّع به النظام وحلفاؤه من ذرائع لتشويه ثورة الكرامة، كامن في وجود هذا الطرف الذي تصدّر المشهد مدفوعًا بالغيظ الذي يشكل القاسم المشترك بين تجليات هذا الفاعل المتطرف، والذي يكشف سوءته مهما حاول أن يخصف عليها ما يسترها من ادعاءات بالاعتدال.
يمكن لعاطفة الكراهية أن تغلّب لديك الرغبة في تغليب دفع مظلمة تاريخية تسبّب بها من تكرهه، وهي عاطفة تستثمر اعتقادًا صحيحًا فتعزّزه، ويمكن لعاطفة الاستياء أن تغلّب لديك رغبة ردّ الاعتبار لمجموعتك التي وُضعت في مكانة متدنيّة في السلم الاجتماعي، وهي مثل سابقتها في وظيفة تعزيز الاعتقاد الصحيح.
ويمكن لعاطفة الخوف أن تغلّب لديك الرغبة في البحث عن الأمان، وهي مثل سابقتيها في وظيفة تعزيز اعتقاد صحيح.
والعواطف الثلاث السابقة محرّضات للثورة على الاستبداد الذي مثّل السبب في تشكيل الاعتقاد المطابق للواقع.
ولكن عاطفة الغيظ التي يحملها المتطرف تشوّه الاعتقاد؛ لأنها سابقة له، وهي لا تنتظر تشكّل الاعتقاد الناتج عن مفهمة الموقف لكي تملك على المتطرف وجدانه.
ومن هنا فإن التطرف في تعبيره اللين أو الصلب هو الخنجر الذي طُعنت به الثورة السورية، وهو الذي يتيح للنظام وحلفائه أن يمارسوا عنفهم الوحشي في مقابلة عنف غير ثوري من دون أن يجدوا معترضين حقيقيين.
إن إقصاء هذا الفاعل عن ثورة الكرامة أصبح ضرورة ملحة، إذا كنا لا نريد أن نستمرّ في طعن ثورتنا بخنجر مسموم شوّه نقاءها وشرعيتها.
وقد أصبح من السذاجة بمكان بعد السنوات التي تصرّمت من عمر الثورة السورية أن نستمرّ في تبرير سرقة هذا الفاعل -المغتاظ بحكم بنية فكرية شائهة- للمشهد بحجة الواقعية.
إن أطفالنا الذين يقتلون بكل أنواع السلاح، وحضارتنا التي تدمر في حلب وغيرها، ضحايا بنية وفعل: بنية نظام بربري وحلفاء مجرمين، وفعل إجرامي لا يمكن أن يرشح عنهم خلافه، وبنية تطرف، وفعل مدفوع بعاطفة مرضية يمكن أن تستهدف الضحية التي تدعي الدفاع عنها قبل أن تستهد ف خصمها المعلن.

رئيس التحرير