بابتسامته الصفراء وبروده الخطر، كان حافظ الأسد يشارك مستمعيه الذين يخطب بهم التصفيق الذي لم يكن يتوقف هنيهة حتى يعود من دون مبرر مفهوم.
كان يؤكد رضاه المطلق عن النفاق الذي يمارسه أفراد من أعضاء تنظيمات استوردها ممسوخة من بلدان أخرى، محولًا إياهم إلى قطعان معلبة الفكر، مسلوبة الإرادة، معدومة الخيال.
المواجهة التي خاضها مع الطليعة المقاتلة في الثمانينيات والتي سميت “بغرض تجهيلي” أيام الأحداث كرّست استفراده، ودفعته أكثر إلى استمراء الظلم بعد أن كسر إرادة الناس بعنف غير مسبوق.
واستحالت الحياة بعدها إلى حياة يُنزع منها كلّ يوم شيء من ثرائها، ويستبدل به جزء قفر، مزروع فيه نباتات سامة.
كانت حربًا باردة أعقبت الحرب المستعرة، شنّها على حضارة السوريين، وعلى تراثهم، وعلى إمكانيات إبداعهم.
فالسياسة صارت حكرًا على القائد الملهم، والاقتصاد ليس إلا ثروة منهوبة، وموارد مسخرة للفاسدين، وريعًا يصب في جيوب الإقطاعيين الجدد.
أما المجتمع فهو أفراد يلهثون لكسب لقمة العيش، وقد عشّش الخوف في أعماقهم، وحرقت القاعدة الأخلاقية لمعظمهم.
وحتى الفن لم يسلم من الحرب الباردة، ولم يجنب الإرهاب (في حادثة مضحكة مبكية عرضت الدراما المصرية عملًا كان قفزة نوعية فيها في أواخر الثمانينيات، لم تسمح الرقابة في وزارة الإعلام السورية بعرضه؛ لأن اسم شخصية الشر فيه كان حافظًا، وعندما طالب بعض المقربين من المسؤول في التلفزيون السوري بعرضه سمح بعرضه في وقت لا يشاهده فيه أحد).
المتغيرات الجديدة بعد حرب الخليج الثانية، ورواج مقولة “سلام الشجعان” استثمرها حافظ الأسد بما يكرّس فروسيته الزائفة، فأصبح من رموز سلام الشجعان، رافعًا شعار “السلام مقابل الأرض”.
انقض سرطان الدم على حافظ الأسد، وكان الموت قد أودى بوريثه “شهيد حادثة المطار”، فاضطر إلى توريث وريث الصدفة.
ولما كان الأخير لا يملك ذكاء أبيه، ولا شراسة وعنفوان أخيه، فقد كان يعوّض ما ينقصه بخطاب خشبيّ يكثر فيه من تعريفات المفاهيم، التي تعلمها متأخرًا، وبضحكات لا معنى لها.
ولما كان قد ورث أرضًا جدباء، نزع والده منها كلّ مظهر للحياة عبر أربعة عقود، فإنه لم يرَ عندما قامت الثورة السورية في الثائرين إلا حشرات تدبّ على هذه الأرض، ولا مناص من سحقها، بالكيماوي، وبالبراميل.
المهم أن وريث الصدفة استبطن ما لم نكن قد فهمناه من شعار أبيه” السلام مقابل الأرض”، فبينما كنا مدركين أن الشعار أسلوب رخيص من أساليب الدعاية، إلا أننا كنا نظن أن الأرض المقصودة كما يبدو من ظاهر العبارة هي الأرض السليبة، ولم نفطن أنها أرض أخرى.
عندما استجلب الوريث المشغوف بالتعاريف والضحكات البلهاء حلفاء أبيه، سابقًا وأسياده حاليًا، لمؤازرته في سحق من ٍسماهم حشرات، بدأ يقتل الأشد بأسًا منهم صبرًا، ويخيرهم عندما تخور قواهم بين الموت أو الرحيل.
أرض سورية المحتلة من العصابة الأسدية هي المقابل للسلام، فلسان حاله، وحال حلفائه يقول: إذا أردتم النجاة بأرواحكم والسلام لأطفالكم، فتنازلوا عن الأرض، واقبلوا بالتهجير القسري، وبتوطين غرباء مكانكم.
ليس المقصود سلامًا مع إسرائيل مقابل أرض سورية محتلة، وإنما أرض حمص وحلب والغوطة مقابل سلام يعني نجاة أهلها بأرواحهم، وأرواح ذويهم.
رئيس التحرير