يقال إن الدهشة قابلة الفلسفة، فهي التي تدفع العقل إلى الغوص في مسارب الفكر؛ من أجل اكتناه الحقائق، ومحاولة مقاربتها، ومن أجل استنفاد أسرار الطبيعة اللانهائية.
ولكنها تستحيل دهشة بلهاء إذا كانت تتكرر استجابة لواقع صريح يكشف عن نفسه منذ زمن طويل.
أثناء الحراك السلمي استبدّ الفرح بالكثيرين عقب تصريح هيلاري كلينتون أن شرعية النظام السوري قد سقطت، ولقد شهدت بنفسي زغاريد النساء، وتكبير الرجال استبشارًا بهذا النصر المبين.
واستولت الدهشة نفسها، ولكن بوجهها المقابل المعبر عن الخذلان عندما قرر أوباما التراجع عن ضرب النظام السوري بعد تجاوزه الخطوط الحمر.
وهي الدهشة -قابلة الفشل في التعاطي مع المتغيرات- التي نلاحظها اليوم على وجوه الكثيرين؛ بسبب تصريح المسؤول الأمريكي أن الإطاحة بالأسد ليست أولوية أمريكية.
يمكن أن تكون غير مدرك للإطار الفكري الحاكم للسلوك الأمريكي، ولكن لا يُتصور أن تكون غير مدرك لمسؤوليتك عن عزوف صناع القرار الأمريكي عن مدك بأسباب القوة التي تؤهلك للانتصار في معركتك.
ولا يُفهم عجزك عن استذكار الماضي غير البعيد الذي سبّب فيه الطغيان الأمريكي ظهور وحش التطرف الإسلامي، واستذكار الماضي الأليم الذي أتت فيه الصواريخ الأمريكية على ملجأ العامرية في بغداد، وأحالت الأطفال فيه إلى رماد.
وليس في المترادف أن تتأمل من الكيان الامبريالي -الذي يعدّ الكيان الصهيوني أولويته- الوقوف في صف ثورة سرقها الإسلام المتطرف وحرف مسارها.
ومن الواجب فهم تراجع الموقف التركي الذي بات غير معنيّ إلا بمحاربة التطرف على حدوده، وممانعة الدعم الأمريكي لعدوه التاريخي المتمثل في حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، ومنع الدهشة من الارتسام على وجهك لكيلا تشي بغفلتك وجهلك.
ربما يعبر اليساريون والقوميون الداعمون لنظام الأسد عن موقف أكثر تماسكًا وانسجامًا على الرغم من تهافت هذا الموقف وانحطاطه، فهم يصدرون عن مسلمات جامدة من خمسينيات القرن الماضي لم تستفزّ دهشة من أي نوع الحاجة إلى ضرورة تغييرها.
تقول رواية إن شابين أمريكيين ماركسيين قدما إلى سورية للقتال في صفوف الحركة الكردية اليسارية المشرب، وقد أخذتهما الدهشة مما شاهداه من واقعها المغاير للمركوز في مخيلتهما، وقررا الابتعاد عن ساحات القتال.
لقد سرت عدوى الدهشة إلى القادمين من وراء البحار، ولم تستول على المقاتلين في صفوف نظام الاستبداد من الممانعين، على الرغم من كل ما يرونه ملء البصر من إجرامه، وتحالفه من طرف التابع مع الإيراني والروسي.
الدهشة البليدة لدى الطرف الأول جراء كل موقف أمريكي أو موقف من حليف يعبر عن ابتعاد عن طموحات السوريين الثائرين، وبلادة اللادهشة لدى الطرف الثاني القابع في فسطاط الممانعة تعبيران عن الانفصال عن مجريات الواقع الذي يتغير كل يوم، ويفصح عن مستقبل أكثر قتامة لن نعثر فيه على سورية التي نعرفها.
التغيير الديموغرافي المستمر في ريف دمشق، وحمص، وغيرهما الذي يعمل عليه الإيرانيون الذين لا يمكن أن يقبلوا أن يخرجوا من المعادلة بعد كل ما قدموه من دون تحقيق جزء من مشروعهم، ومشروع التقسيم الذي بات جليًا في الدعم الأمريكي للحليف الكردي هما المتغيران اللذان ينسجان مستقبل وطننا، وهما رافدا نهر الواقع الأساسيان اللذان يمران من تحت الجسر مستغلين المواقف المتخلفة سياسيًا بوجهيها المندهش والبليد.
فلتوفروا دهشنكم اليوم؛ لأن واقعًا أكثر إدهاشًا في انتظارنا.
رئيس التحرير