تأتي العملية الانتحارية في حمص المتزامنة مع مفاوضات جنيف؛ لكي تؤكد أن التواطؤ الضمنيّ بين النظام والتطرف لا يحتاج إلى مؤكّدات؛ فقد استثمر الجعفري تلك العملية بسرعة لإحراج المعارضة، وتأكيد ضرورة إدانتها للعملية، وإلا أثبتت مقولته الأساسية وهي أن هذه المعارضة ليست إلا حفنة من الإرهابيين المرتزقة.
سيكون من الصعب تأكيد أن العملية من صنع النظام بشكل مباشر، ولكنْ من اليسير الجزم بأن مسار العملية السياسية الذي يتجه إلى حشر المعارضة السورية في إحدى خيارين: هما تخفيض السقف بقبول المركزية، أو الذهاب إلى الدمار هو عامل أكيد في دفع هيئة تحرير الشام إلى محاولة التأثير في سير المفاوضات؛ لكيلا تصل إلى اتفاق تصبح هي بموجبه المستهدفة من الجميع.
تسير الأمور نحو وجهة ليست في صالح المعارضة السورية بعد تغير الموقف التركي الذي بات أقلّ تشددًا تجاه النظام السوري ورأسه، على الرغم من التصريحات المتشددة التي لا تغير من حقيقة أن صانعي القرار في تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة صار همهم التنفيس في القضايا الخارجية؛ من أجل التركيز أكثر على الداخل.
وارتهان قسم من المعارضة السورية للسياسة التركية ليس سرًا، ويعزز فقدان التوازن لمصلحة النظام الإصرار الروسيّ على دعم النظام، وصياغة دستور وإجراء انتخابات، وتبني المبعوث الأممي لهذا التوجه وهو تبنّ أخذ في الآونة الأخيرة صيغة أكثر حدة.
المهم أن المؤشرات وفق هذا السياق تتجه إلى فرض انخراط المعارضة في حرب على الإرهاب المتمثل في داعش وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا) وقد يكون ذلك عبر ما يسمى بالجيش الوطني، وقبولها بمركزية النظام الذي سيأخذ شكلًا مختلفًا قليلًا عبر ما شُرِع فيه وهو المجالس المحلية التي يشجع الروس إنشاءها في مناطق معينة، وهو ما يمكن أن يقبله النظام؛ لأنه لا يؤثر في رفضه للانتقال السياسي، وعلى العكس يمكن أن يؤكد مركزيته.
المتغير الذي يحتاج إلى كشف غموضه هو الموقف الأمريكي الذي لم تتضح معالمه بعد، ولكن يبدو أنه يركز على وقف إطلاق النار وفرض الفيدرالية، وبالطبع مع ترك مناطق الصراع الأساسية في حالة صراع حتى تنضج الأمور بصورة تمكن من شنّ حرب شاملة على التنظيمات المتطرفة.
إن هذا التحليل الذي يتوخى فهم المجريات يفرض سؤالًا ملحًا:
لماذا تبدو الساحة السورية فارغة إلى هذا الحد من فاعلين سوريين مستقلي الإرادة يصنعون قرارتهم بوحي مصلحة وطنهم ومستقبله؟
إذا كان التطرف انسحابًا من مجتمع يعده المتطرف كافرًا، ومن ثمّ التمرد عليه بغية إعادته إلى الإيمان، فإن هذا الانسحاب لم يكن شأن المتطرف وحده، فقد انسحب من هذا المجتمع اليساريّ الثوريّ؛ لأنه عده مجتمعًا متخلفًا لا بد من تقويض بنيته الفكرية لكي يشيّد من جديد على أسس علمية.
وانسحب منه القومي؛ لأنه عده لا يمثل الموضوع الذي يجب الاشتغال عليه، فهو يتطلع إلى الأمة، كائنه المتخيل الذي لا وجود له إلا في خياله.
وأبقى على صلة واهية به الإسلاميّ ولكن بعدة قروسطية لم تكن في حلّ من مسؤولية ظهور التطرف الإسلامي.
ولأن في الفراغ نزوعًا طبيعيًا لأن يُملأ فقد استدخل كلّ راغب في ذلك.
لا سبيل لقلب ظهر المجنّ على المشاريع التي لا تحقق أدنى ما كنا نطمح إليه إلا باستثمار الجذوة التي لا تزال متقدة في قلوب أبناء شعبنا الثائر، وتشكيل ائتلافات عابرة للطوائف والإثنيات؛ لإبقاء بصيص أمل في تحقيق ما ثرنا لأجله.

رئيس التحرير