هيئة التحرير
يبدو أن اللجنة الدستورية التي خرجت عن احتفالية سوتشي، دفعت ستيفان دي مستورا، ربما مجبراً للسير في ركاب سراب الحلّ، وهو يعرف بالتأكيد أن سورية ليست جديدة في حياكة الدساتير، فمنذ دستور 1920 إلى 2012 كانت الماكينة القانونية السورية قد صنّعت ستّة عشر دستوراً، خمسة منها دائمة، في مختلف المراحل والتغيّرات التي مرّت بها الدولة السورية بعد الحكم العثماني. أمّا النسخة السابعة عشرة، فقدّمها الروس في أستانا للأطراف المتفاوضة، كمسوّدة دستور سوري جديد، معيدة إلى الأذهان تجربتها في الشيشان بعد إحراق غروزني.
وهو يعي أن القضية ليست في الدستور، ولن يحلّها دستور دون هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيّات التي نصّت عليها مقرّرات جنيف1، وما تبعه من قرارات أممية. ولم يدرك بعدُ، أو يتعامى عن إدراك ما استنتجه من قبلُ “روبرت فورد” سفير أمريكا السابق في سورية بقوله: ( الدولة الأمنيّة -في سورية- ستخرق وتنتهك موادّ الدستور الذي يمكن أن يكون رائعاً على الورق). علماً أن (ورقة الإسكوا) التي درست المسألة الدستورية في سورية وآفاقها المستقبلية، أفضت بعد أربع سنوات من النقاشات، إلى ثلاثة خيارات للمستقبل الدستوري في سورية: إمّا تعديل دستور 2012، أو العودة للعمل بدستور 1950، أو الاتفاق على دستور حكم مؤقّت جديد، ولكنها لم تحدّد آليّات تنفيذ أي من الخيارات يتناسب والوضع القائم على الأرض.
ودي مستورا يعرف، قبل غيره، أن اللجنة الدستورية “مسرح عرائس”، أبطاله الكَتَبة دُمى تحرّكها دول ” ضامني أستانا ” ودول ” النواة الصلبة ” عند التوافق على توزيع الغنيمة، وما هذه الدُّمى إلا لشَرْعَنة الخطوات التالية، قبل إسدال الستار على القضية السورية إلى حين. وما استعجال الجميع في الإنجاز إلا لقناعتهم أن أي دستور لا يسطّره مَن يمثّل السوريين، وعلى الأرض السوريّة لا يمكنه أن يعيش.
ثمّة أمور تتعلّق بتشكيل اللجنة الدستورية العتيدة، ما زالت ضبابية، إذ لا مهمّة واضحة لها، ولا توصيف محدّد لتكوينها ومكوّناتها، وآليّة عملها، ومرجعيّتها، ولا تحديد لدور القوى الدولية والإقليمية، ولا دور مجلس الأمن ومقرّراته في عملها، ولا دور مخرجاتها في تحقيق الانتقال السياسي، ولا كيفيّة معالجة الاحتلالات المتعدّدة وتناقضاتها، ولا كيفيّة التنفيذ لمخرجاتها، والجهة التي ستنفّذها وآليات التنفيذ التي تدفع الأطراف جميعها للالتزام بها.
إن إرادة القوى المتصارعة الإقليمية والدولية اختزال القضية السورية بتسوية دستورية، سيؤدّي إلى اختصار الحلّ السياسي بإعلان دستور حسب الطلب، معدّل أو جديد أو مهجّن، يرتضيه مريدو هذا الطرف أو ذاك، ويسكت عنه مدعومو هذه القوة أو تلك، إنه تسويق لتسويةٍ دوليةٍ، تحقّق مصالح الجميع في سورية وخارج سورية على حساب السوريين وحقوقهم. مثل هذا الدستور لن يعيش؛ لأنه رهينة مَن فرضه، ويؤسّس ارتهاناً لعدم استقرار مديد. فمادام دور المجتمع السوري مستلباً للقوى المتصارعة المحلّية والإقليمية والدولية، فلن يُنتَج إلا ما يراعي طموح تلك الأطراف، وما يتماشى ومصالحها. إن الالتفاف على الانتقال السياسي بالقفز على مقرّرات جنيف1 و2254 عبر صياغة دستور أو تعديل دستور أو اعتماد لجنة دستورية تنجز دستوراً أو تهجّن دستوراً يغيب عنه التمثيل الوطني السوري وفق أسس ومعايير تتعامل وتعمل بموجبها كل الدول، مصادرة لإرادة الشعب، ولا هدف له غير تأهيل النظام وشَرْعَنة وجوده واستمراره، عبر ألاعيب ومسرحيات تقوم بها دُمى مسرح اللجنة الدستورية، بإعطاء مزيد من الوقت لجعل الاستقرار أمراً نافذاً لترسيم مناطق النفوذ، وإغراقها في الخلاف أو الاختلاف. وبوادر ذلك بادية لا يخطئها النظر، ففي الوقت الذي تنعقد فيه الاجتماعات في جنيف لتظهير اللجنة الدستورية، يقوم النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون، وبمباركة ضمنية أمريكية وأوروبية وعربية، وبتفاهم مع إسرائيل وتفهّمها، باجتياح الجبهة الجنوبية، وهي من مناطق خفض التصعيد المتعهَّدة من قِبل أطراف دولية وإقليمية.
ويصرّ الروس على حياكة دستور سوري قبل انتهاء الحرب، بينما يتمسّك النظام بدستوره، وتؤكّد ” النواة الصلبة ” على صياغة دستور جديد ينتج عن لجنة دستورية متوازنة، وعليه ستكون القضية السورية مجرّد إشكال دستوري في الدولة السورية، يعمل العالم بقضّه وقضيضه على علاجه بعيداً عن الانتقال السياسي، الذي يحقّق مشاركة السوريين، وهم القطبة الأساس التي يريدون إخفاءها في أي دستور يوضع لبلدهم، لحساب دُمى اختارتها القوى المحتلّة النافذة وفقاً لمعايير تحقّق جودة الإعداد، وجمال العرض، وتقنية الإخراج، وإمتاع المشاهدين.