ما من وثيقة دولية تحدّثت عن التهجير القسري أو إبعاد السكان أو النقل القسري
الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراضٍ أخرى، إلا وأدرجته ضمن جرائم الحرب أو جرائم الإبادة الجماعية، أو جرائم ضدّ الإنسانية، بينما يَعُدّ رأس السلطة الأسدية ذلك كسباً، في خطابه “آب عام 2017”: “بالفعل خسرت سورية الكثير من شبابها وبنيتها التحتية، لكنها كسبت في المقابل مجتمعاً أكثر نقاء وأكثر تجانساً”. وهو يؤكّد فعلاً ممنهجاً قام به النظام، وتهرّباً من جريمة التهجير القسري بإسباغ الصبغة القانونية على الفعل مشفوعة بقانون يقضي بحفظ الحقوق شكلاً، بعدما تمّ اقتلاع أصحاب الحقّ بالفعل العسكري المستند إلى قوّة القانون.
كانت البداية بصدور المرسوم (40) 2012 الخاص بإزالة مخالفات البناء، ثم تلاه صدور المرسوم (66) 2012 الذي قضى بإحداث منطقتين تنظيميتين (ماروتا/الوطن، وباسيليا/الجنة) في نطاق محافظة دمشق، ستقام على خرائب المنطقتين التنظيميتين اللتين طُرد سكانهما منهما. وقانون التخطيط وعمران المدن رقم (23 ) 2015، والمرسوم (12) 2016 وهو أخطرها، إذ يقضي بِعَدّ النسخة الرقمية لوقوعات الحقوق العينيّة المنقولة عن الصحيفة العقارية، في الجهة العامة المنوط بها قانوناً مسك سجلات الملكية العقارية، ذات صفة ثبوتية. والقانون (33) 2017 القاضي بتنظيم آلية العمل في إعادة تكوين الوثائق العقارية المتضرّرة كلياً أو جزئياً، أو التي ثبت فقدانها نتيجة الحوادث الطارئة، واعتبارها تتمتّع بالقوة الثبوتية. والقانون (3)2018 الخاص بإزالة أنقاض الأبنية المتضرّرة وبالتالي سيغير الجغرافيا ويمحو آثار الملكية ، ليأتي أخيراً القانون (10) 2018 متوّجاً الطفرة التشريعية، ففتح الباب واسعاً أمام إحداث مناطق تنظيمية أخرى، في أي مكان في سورية سبق تنظيمه من قبل.
هذا السيل من التشريعات العقارية وتعديلاتها، في تخريج تدمير المعمّر وإعادة تنظيم المنظّم، ما هو إلا محاولة تغطية الشمس بغرابيل، فالسياسي لا العقاري جوهره، وما ينطوي عليه هندسة ديموغرافية، تؤسّس “لنقاء وتجانس” تعمل عليه السلطة الأسدية، يقوم على الطائفية والمذهبية والولائية العبودية، لم يعد مخبوءاً، وقد بانت تجلّياته منذ القوافل الأولى للتهجير التي انطلقت من المعضمية وداريا، لتكرّ المسبحة عشرات القوافل بعد تحديد مناطق أستانا لخفض التصعيد. بل يمكن تحديد إشارة البدء بتحديد ماهيّة السوري عند النظام، فهو ليس من يحمل هوية سورية وخرج مطالباً بالحرية والكرامة، بل من يدافع عنه ويثبّت أركانه أياً تكن هويّته. لقد حقّق النظام بإجازته للقانون (10) تشكيل لجان إدارية غير قضائية، ما يوصله هدفه، فيخلط الأمور وتتنازع القوانين، ففي منطقة تنظيمية لجان قضائية ، ولجان إدارية في منطقة تنظيمية أخرى، بل إنه أضاف إلى المهام الموكلة إلى اللجان الإدارية مهمّة إجراء مسح اجتماعي للسكان في المنطقة! وهو ما يجعل الأمر مرتبطاً بأجهزة الأمن التي تتحكّم بمصير البلاد والعباد، وتملي على القضاء والجهات الحكومية ما تريده، وبالتالي سيكون لها القول الفصل. فتمنع عودة النازحين واللاجئين والمنفيين، وتهدّد بنزع الملكية من المعتقلين والمفقودين والمطلوبين والمعارضين، وإن عادوا فبشروط مصالحات النظام، وبذا هو قانون لسرقة عقارات السوريين، وجعلها مكافأة لمناصريه ومقاتليه من مختلف الجنسيات، ( كما جرى في حماة مطلع ثمانينات القرن الماضي، إذ وُزِّع السكان طائفياً )، وذلك بغية إعادة هندسة سورية بتكريس واقع جديد، مع سقوط الغوطة، ودير الزور، والقلمون، وريف حماة وحمص وحلب، يضمن استمرارية النظام وإعادة تأهيله، بما يحقّق أهداف المشروع الإيراني، وخلق مرتكز جيوإستراتيجي تعمل عليه السياسة الروسية.
إن نظاماً يقتل شعبه بكل أنواع الأسلحة، بما فيها المحرّمة دولياً، ويطلق مواليه لاستباحة أملاك من يعارضه، إن هو إلا عصابة مافياوية، لا يمكن أن يتحقّق استمرارها بتنظيم عمراني ديموغرافي، محمولاً على الاستباحة والإيغال في الجريمة التي ستأتي عليه أخيراً.
عندما بدأ الشرط الدولي بربط إعادة الإعمار بالانتقال السياسي المقرّ في وثائق جنيف والقرارات الدولية 2254 وغيره.. بدأ الالتفاف بإصدار القانون رقم 10 لجعل فكرة (إعادة الإعمار دون انتقال سياسي ومعه تأهيل النظام) أمراً واقعاً، تروّج له روسيا وإيران، وتعملان بوتائر متسارعة على استثارة النفعية لإعمار بلد مدمّر، وشهية المستثمرين من الصين إلى أوروبا لجني المليارات في مشاريع ربحية، لن تبني استقراراً بقدر ما تهيّئ الساحة لصراعات لن تنتهي إلا بزوال النظام ومعه كلّ قوانينه التي هي نتاج كارثة استثنائية، لم تجرِ في العالم المعاصر، وعالم يرى ويسمع بشكل استثنائي، في ظل نظام استثنائي، ورُعاة له ومشاركين استثنائيين، يرون أن في المزيد من التشريع التنظيمي ذرّاً للرماد في العيون، وإيهاماً بأن الحرب انتهت، وكأنما الاحتلالات ليست للأرض التي تقع عليها القوانين، والصراعات الإقليمية والدولية في دولة أخرى غير سورية، واستعجالاً لجني محاصيل النصر وقطف الثمار، تهرّباً من استحقاق الانتقال السياسي الذي لابدّ سيعيد النظر بكل القوانين الهادفة لبسط “النقاء والتجانس” منذ الثورة السورية2011، يغالط حقائق الجغرافيا والتاريخ القارّة في سورية والتي هي سبب بقائها حتى الآن.