لا تتبلور الهوية من دون آخر تتمايز بوجوده، وهي إذ تبنى متفاعلة مع ذاكرة لا تنفك عن التفاعل الجدليّ معها تحتاج دائمًا إلى جعل الآخر فاعلًا أساسيًا في هذا البناء.

ولكن التصور للآخر يمتزج فيه الواقعي مع المتخيل، شأنه شأن الذاكرة التي تنطوي على وقائع ثابتة، وعلى دلالات لا تطابق الواقع وإنما تعبر عن فهوم متنوعة له.

ولأن عملية بناء الهوية ينبغي أن لا تتوقف، وأن يضاف إلى عناصرها ويحذف منها وفق ما تقتضيه المتغيرات، وتتطلبه السياقات التاريخية، فإن العلاقة مع الآخر بدورها ينبغي أن تتبع هذه العملية المستمرة وتستجيب لتحولاتها.

ولعل ما أورثتنا إياه المنظومات التي هيمنت عبر العقود الماضية من قومية ويسارية وإسلامية من تصورات أثبتت بؤسها ومفارقتها لمشروع بناء دولة المواطنة حجة قاطعة على دعوى ضروة إعادة بناء العلاقة مع الآخر بناء جديدًا.

فتصور الآخر وفق منظومة ذات بعد أممي لا يأخذ في الحسبان وجدان الأمة الجمعيّ، وخصوصيتها الثقافية يجعل من الفرد متبنّي هذا التصور آخر بالنسبة إلى أبناء مجتمعه، وما محاولة بعض متبنّي هذا التصور الأممي توسيط البعد القومي تداركًا لهذا النتيجة إلا محاولة قاصرة لم تؤت أكلًا، وخصوصًا أنها صيغت بافتراض وجود طليعة ثورية، وهو ما يستبطن نخبوية تنفّر من تريد قيادتهم وتوجيههم من حيث تريد أن تجذبهم.

وتصور الآخر وفق منظومة إسلامية تنتقي من الذاكرة ما يدعم أيديولوجيا إقصائية، وتقصر الهوية على بعد زمنيّ واحد هو الماضي لم يلزم منها -وهو لزوم حتميّ- إلا تأجيج لمشاعر طائفية تجعل من مشروعها الامبراطوري مسخًا؛ لأنها تهدم أركانه قبل أن يغادر حدوده.

وتصور الآخر وفق منظومة قومية تصرّ على تحويل فرض رومانسيّ عن روح الأمة الخالدة التي تتجلى بصور مختلفة عبر مراحل التاريخ إلى حقيقة تحيل الآخر الشريك في الوطن إلى مواطن من الدرجة الثانية، وتسهّل انبثاق النزعات العنصرية، فضلًا عما أفضت إليه من تسلق المتسلقين، ومسخهم الحلم القومي بتحويله إلى شعار تتلطى خلفه مشاريع طائفية وذاتية.

إن هذه المنظومات استبطنت ازدراء للآخر صريحًا أو مضمرًا، ولعل هذا الازدراء في سياقات أخرى كان نافعًا؛ لأنه كان لازمًا في سياسات هوية تستثمره لخدمة استراتيجيات قومية لا تقوم من دون حاجز بين الـ” نحن” والـ”هم”، كما هو الحال في سياسات دول غربية، ولكنه يتحول إلي بطانة قذرة للهوية إذا كان شعورًا تجاه الآخر يملك على صاحبه مشاعره، ويوجهه بحسب مفرزاته كعامل لا وجود لغيره.

وإن توصيفنا الازدراء بالنفع إنما يأتي في سياق المقارنة المذكورة، وليس من باب تبرير ازدراء الآخر الذي تظل الهوية فاقدة أفقها الإنساني بوجوده.

إن أنظمة الاستبداد التي تبنت هذه المنظومة أوتلك من المذكورة آنفًا قد حولت شعوبها إلى آخر يبادلها وتبادله مشاعر الازدراء.
وإذا كان هذا حال النظام السوري وحليفه الإيرانيّ، فإنه أيضًا حال بعض رموز المعارضة السورية وحلفائها الذين يتحركون بالدافع نفسه؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يُنضجوا منظومة إنسانية خارج النطاق الطائفيّ، مما يجعل الصراع مع النظام وحلفائه صراعًا مع مشابهين، ويجعل حق الشعب السوري الأصيل في الحرية ملتبسًا لدى الكثيرين.

هي في الأصل مشكلة فشل تاريخي في بلورة هوية منبسطة مفتوحة على آفاق إنسانية، اللهم إلا محاولات بائسة لم تستطع السعي إلى هذا الهدف إلا بتوسيط عمق إيديولوجي مفارق، ومشكلة فشل دول كرتونية في بلورة هوية وطنية لا يمثل الازدراء للآخر أسّها، وقلبها الذي يمنحها الحياة.

  • تمت اعادة نشر هذا المقال لمناسبته للحدث الراهن، حيث نشر سابقا في موقع “سوريون”

 

رئيس التحرير